الأسبوع الماضي كانت لدي زيارة لإحدى العيادات الطبية التي يشهد لها بحسن السمعة، لذا فلا يوجد أي داع لإظهار علامات التعجب في حال كانت كعادتها مكتظة بالمرضى والمراجعين. وما أن أخذت مكاني وتأملت بالعدد الكبير، علمت بأنني سأكون عرضة لساعات انتظار طويلة صامتة والتي لابد أن تتخللها آهات التأفف والازدراء لطول الانتظار من الجميع، ولكن بعد مضي ساعة كانت المفاجأة الكبرى أنه لم تسمع أي كلمة تعبر عن حالة الاستياء والتوتر من المنتظرين الذين يتناقص عددهم رويداً رويداً، والسبب بكل بساطة أن الأغلبية العظمى، وأنا معهم، كانوا مشغولين بصمت تام بجهازهم الهاتفي، حيث أناملهم كالفراشة تتنقل من صفحة محادثة إلى أخرى.
فحالة الرضا العامرة عن موضوع الانتظار ذكرتني بأغنية أيام الزمن الصافي والجميل لعملاقة الفن الأصيل السيدة أم كلثوم «أنا في انتظارك مليت» وسألت نفسي حينها؛ لو كانت معنا هي اليوم، أو الشاعر بيرم التونسي الذي أبدع في كتابته لهذه القصيدة الشعرية الرائعة، ماذا كان عليه أن يكتب يا ترى إزاء حال تعامل الناس مع الانتظار؟!
فنحن كثيراً ما نتكلم عن الأضرار الناجمة من سوء الاستخدام لبرامج التواصل الاجتماعي، والتي بلاشك تم إنتاجها من البداية لرجاحة الجانب الإيجابي على السلبي، فهذه البرامج بريئة من عبقريتنا الفذة في استخدامنا لها بحسب أهوائنا الشخصية.
لذا ليس من العيب وبانفتاح عقلي كبير أن نذكر أحد الجوانب الإيجابية لهذه البرامج، فلندقق قليلاً بواقع الحال اليومي الذي نعيشه، بسبب هذه البرامج المتنوعة، ألم تنخفض المشاجرات الثنائية ذات الصوت المرتفع، وأصبحت الحوارات الغاضبة يعبر عنها برسمة لوجه عبوس أو شرير حانق، وعملية الرضا خالية من المصاريف الإضافية فهي متمثلة بباقات من الورود التي لا تعد ولا تحصى مع الأبيات الشعرية والأغاني الرومانسية إلى أن تعود حالة الرضا كما كانت عليه!
لم نعد نسمع عن شجارات زوجية عند طلب الزوج لمشاهدة إحدى المباريات الرياضية أو البرامج السياسية والإخبارية، أو كما وصفت إحدى السيدات زوجها، بأنه «ديكتاتوري» لسبب أنه المسيطر على جهاز التحكم عن بعد «الريموت كونترول» لجهاز التلفاز، بل على العكس تماماً باتت هذه الأسباب متنفساً للزوجات كي تنفرد بصمت في عالمها الخاص الذي شكلته باختيارها على جهاز هاتفها.
كما أنه بتنا نشتاق لأصوات التأفف والتذمر عندما يتأخر دورنا في إحدى العيادات الطبية أو المراكز الحكومية والخاصة مثل البنوك المصرفية ومكاتب الكهرباء والماء وغيرها من الأماكن التي يستوجب بها الانتظار، لأنه وببساطة فقد أصبح الانتظار وسيلة فاعلة للتواصل مع الآخرين ونسينا النظر إلى ساعاتنا كل خمس دقائق. واعلموا أن لحظات الغضب ستصبح «ملوحة على السماع» عندما يفرغ شاحن الهاتف ليتحول السؤال لموظف الاستقبال من «متى موعدي؟» إلى «هل تملك شاحناً يتناسب مع هاتفي هذا بالذات؟».
فبالتأكيد أصبح الحل بين أيدينا، للسؤال الذي جاء في فكري عن احتمالية ما كان ليكتب الشاعر بيرم التونسي لوصف حالنا الآن، أعتقد ستتحول كلمات الأذى والقهر من الانتظار إلى: «لا يا حبيبي أنا بانتظارك أبداً ما مليت، تلفوني في الشاحن كل الليل خليت، إيدي على تلفوني من الصبح حطيت، وبين حوارات، صور، رسايل وتغريدات، أطمنك بطول وقت غيابك أبداً ما حسيت».
حقيقة، ويل لأمة ضحكت من جهلها الأمم.. وأصبحت ترى لذة هدر وقتها الثمين في برامج لا تثمن ولا تغني من جوع إلا من رحم ربي.