خبر منشور أمس لا يجب أن يمر هكذا مرور الكرام؛ إذ أراه بمثابة إقرار علني يقدمه مجلسا الشورى والنواب للمواطنين بشأن الظاهرة التي تحولت إلى «بعبع» أو «وحش» بسببه يمكن أن تتبخر أحلام وآمال كثير من المواطنين.
نتحدث هنا عن «الدين العام»، والخبر معني بموافقة لجنة الشؤون المالية والاقتصادية بمجلس النواب على رأي مجلس الشورى بشأن مشروع قانون الدين العام الذي اقترحه الشورى في الفصل التشريعي السابق.
قبل الخوض في التفاصيل علينا أن نستذكر حقائق ونوثقها هنا للتاريخ، إذ الدين العام للدولة قبل سبع أو ست سنوات كان يبلغ مليار دينار، والقراءات الحالية تقول إنه بحلول نهاية العام 2015 يتوقع أن يصل إلى 7 مليارات، في قفزة كبيرة جداً.
هذا الدين العام كان سبباً في تقويض كثير من المقترحات والمشاريع الطموحة التي كان سيستفيد منها المواطن، باعتبار أن تأثيره الواقع على ميزانية الدولة يفرض وجود عجوزات معها يصعب تحقيق كثير من المشاريع التي يتقدم بها النواب، خاصة تلك التي تضغط باتجاه رفع الرواتب بنسب مؤثرة أو تخفيض الديون، أو حتى زيادة موازنات قطاعات خدمية حتى تغطي كثيراً من الطلبات المتأخرة كحال وزارة الإسكان.
هذا الدين العام بات أمراً مقلقاً، فالنظرة إليه متباينة، إذ إن المواطنين ومعهم النواب يرونه «الرد الحاسم» الذي يمكن أن يرد به أي مسؤول أو وزير لإجهاض أي فكرة أو قتلها في مهدها، ولربما بعض المسؤولين يفعلها عمداً باعتبار أن لديه رداً جاهزاً ومفحماً، وبعضهم لربما يريد بصدق أن يحقق ما يريده الناس وممثلوهم لكن الوضع الحالي بالنسبة للدين العام يجعله يقف مكتوف الأيدي.
عملية تقليل الدين العام ليست بالمسألة السهلة، ولأجل تحقيقها لابد وأن تدخل الدولة في أطوار تقشف ولمدة طويلة قد تصل إلى عشر سنوات على أقل تقدير، شريطة تقليل مبلغ الميزانية وإنقاصه بشكل مؤثر، وهذه مسألة بحد ذاتها شبه مستحيلة، إذ المنطق يقول بأنه مع مضي الزمن فإن الصرف يفترض أن يزيد لا أن ينقص، نظراً لزيادة الأسعار، وزيادة عدد السكان، وارتفاع كل شيء بفعل التطور والعولمة وتأثيراتها.
إذاً كيف تحل المشكلة، وكيف نصل لمرحلة يمكننا فيها معادلة الكفة حفاظاً على مستقبل الأجيال القادمة؟! ونقول الأجيال القادمة، لأن مشكلة بهذا الثقل لن تحل خلال سنوات قليلة قادمة، لكن قد تكون احتمالات معالجتها تدريجياً شبه ممكنة لكنها قد تحتاج إلى عقود.
موافقة مجلس النواب جاءت على مشروع القانون الذي يهدف إلى إدارة وتنظيم الدين العام وتحديد مستوياته، ورغم أن الفكرة طيبة بل مطلوبة إلا أن آلية التنفيذ وصرامة التطبيق هي الفيصل في المسألة كلها.
بموجب المشروع فإنه تنشأ لجنة الدين العام تتبع مجلس الوزراء، وأهم مسؤولياتها تكمن في ضبط عملية الاقتراض واقتصاره على الأمور الاضطرارية القصوى، مثل تمويل عجز الميزانية، تمويل المشاريع المدرجة في الميزانية، مواجهة الكوارث وحالات الطوارئ، إعادة هيكلة المديونية الداخلية والخارجية، دعم ميزان المدفوعات، إضافة إلى تمويل أية أغراض أخرى لأسباب مبررة تقررها الحكومة.
الفكرة إيجابية، والحالات المحددة مقبولة منطقياً، لكن القلق من الحالة الأخيرة «تمويل أغراض أخرى مبررة»، إذ هذا الكلام يجرنا للوراء بتذكر حالات الاقتراض السابقة والتي كثير منها تم تحت هذا البند «أغراض أخرى»، وهو ما دفع مجلس النواب في عدة مرات لانتقاد عملية الاقتراض وكأنها تتم بطريقة لا يتم فيها استشراف تداعياتها في المستقبل.
إن كان لهذا التوجه أن ينجح، فإن الفكرة تكمن في محاولة «إنهاء» الاقتراض لا «تقليله»، ومحاولة التعامل بالموجود عبر وقف الصرف في أية أمور غير ذات أولوية، أو اختراع مشاريع عدم وجودها لا يؤثر بل قد تكون رفاهية زائدة لكنها ذات كلفة تزيد إرهاق الميزانية وتزيد من مساحة الشق في الدين العام.
التخطيط المالي في الدولة يحتاج لمراجعة صحيحة، يحتاج لوقفة جادة، ويحتاج لإسناد المسؤولية لمن هم أهل لها وعلى قدرها ومن يمتلكون الرؤية المناسبة والكفاءة اللازمة للعمل على تعديل كفة الميزان المختل.
حل مشكلة الدين العام لا يجب أن يكون على حساب الناس، هذه نقطة يجب أن يوضع تحتها ألف خط، والرجوع للهدر المالي في عشرة تقارير لديوان الرقابة المالية والإدارية قد يساعد كثيراً في معرفة وفهم الأسباب التي أدت إلى القفزة الرهيبة في الأرقام بالنسبة للدين العام، ولمعرفة كيف كانت تصرف موازنات الدولة طوال هذه السنين.
كل ما نحلم به اليوم، أن نصحو يوماً ونجد أن الدين العام للبحرين قد «تصفر» وإلى الأبد.