أحياناً تصل لمرحلة تلامس فيها حافة «الكفر»!
وللتوضيح -قبل أن يهيج البعض- ما أعنيه هنا أمر لا يتعلق بالدين والإيمان الاعتقاد، وعليه فليرجع البعض سيوفهم في أغمادها؛ إذ الحديث جدلي بحت عن القناعات الإنسانية المتباينة من فرد لآخر.
فعلى سبيل المثال؛ حينما تقضي ردحاً من حياتك مطارداً شيئاً ما، أو محاولاً القيام بشيء مؤثراً بنوع ما، وترى نفسك أحياناً تصل لهذه الأهداف، أو أقلها ترى بصيص أمل في تحقيقها، ثم تفاجأ -بل تصدم- بأنك كالذي يحاول أن يحفر جبلاً من حجر الصوان بملعقة بلاستيكية.
هناك من يستسلم فوراً، فلا هامش مناورة لديه هنا مع الإحباط ويسلم نفسه رهينة لليأس. وهناك من يكابر ويحاول ويجاهد ويصر على حفر الصخر عله ينجح، والمشكلة أن الغالبية العظمى منهم لا ينجح، لا لخلل فيهم، ولا لأن ما يقاتلون من أجله من مبادئ وأعراف وثوابت غير صحيح، بل لأن الخلل يكمن في المنظومة، في «السيستم» في المكونات نفسها. بالتالي حتى لو كان لديك معول حديدي أو حتى متفجرات ديناميتية سيظل الجبل مكانه ولن يتزحزح.
أخطر مراحل الكفر، هي «الكفر بالقناعات»، وهذا التوصيف يمكن سحبه حتى على الاعتقاد والإيمان بالدين. لكن بمعزل عن ذلك، نتحدث هنا عن الفضائل والأخلاقيات والمبادئ والأعراف والقناعات الأخرى التي تكون شخصية الشخص وتحدد مساراته وتقوده في اتجاهاته.
أخطر شيء يمكن لمن يحمل «هم الفضيلة» ولواء «محاربة الأخطاء» ورسالة «التصحيح»، أن يصل لمرحلة يكفر فيها بكل هذه القناعات، أن يصل لمرحلة يقرر فيها التخلي عن كل شيء، لا كرهاً وبغضاً فيما كان يفعل، وعما كان يدافع، بل لأنه وصل لقناعة «أخيرة» خطيرة جداً، مفادهاً بأن كل هذا السجال، كل هذا الصراع، كل هذا البذل ومحاولة التعديل، كلها «هدر» لعمره وحياته وطاقته ولربما ماله، كلها «مضيعة للوقت» في زمن ووضع بات المحارب فيه من أجل «الفضيلة» و«الإصلاح» هو من تتم محاربته، ومن يسعى للبناء والتصحيح هو من تتم تخطئته ومن يوسم بأنه ساع وراء المشاكل والفوضى!!
كم من قطاع في هذا البلد، وصل فيه كثير من الموظفين إلى قناعة بأنهم مهما فعلوا، مهما قالوا، مهما تحركوا فإن لا شيء سيتغير؟! وحتى لو كان الخطأ صارخاً فاضحاً طافحاً على السطح، لا شيء سيتغير؟! وحتى لو كانت الكوارث الإدارية تمشي على أقدامها مستعرضة وكأنها في عرض للأزياء، فإن لا شيء سيتغير؟! فقط أسأل، كم منكم فكر هكذا؟! كم منكم قالها بالبحريني «خلها على الله»؟!
كل هذا يعني أن هناك نوعاً من «الكفر» في قناعات كانت في ما سبق ثوابت لا يمكن الحيد عنها. ولربما بعد أربعة أعوام مما عانته البلاد لسنا نكذب حينما نفاجأ أحياناً بأناس وصلوا لمرحلة من اهتزاز الثقة يصل في خطورته لدرجة ثبات انتمائهم للبلد وقربهم منه و«حتمية» دفاعهم عنه إن استجد أي أمر لا سمح الله. لسنا نبالغ إن قلنا بأن هناك من بات مقتنعاً بأن خير هذه البلد لا يذهب لمن يدافع عنها، بل لمن يشتمها، ويتطاول عليها، وبعضهم لا يتوانى عن القول بأنه «غسل يده» من كل أمر له علاقة بأي حراك في البلد. هذا نوع خطير من الكفر بثوابت ودعائم الانتماء الوطني حتى.
في أغلب الأحيان، لا يكفر بقناعاته إلا من عانى وذاق الأمرين لأجل تحقيقها والدفاع عنها، لا يكفر بها إلا من يرى المجتمع ينادي بها، ويرى الجميع يرفعها كشعارات «أعني مبادئه وما يدافع عنه»، يرى الكل يتفق عليها، لكن حينما يأتي ليطبقها ويرسخها ويحاول تحقيقها ينصدم بأنها ليست ثوابت وقناعات وأعرافاً بقدر ما هي «شعارات» و«أقوال» و«إكسسوارات إعلامية»، الحرب عليها أكبر وأشد من الحرب لأجلها وبهدف إحقاقها. وعليه لم التعب، ولم النصب، ولم الكفاح من أجل التصحيح ونحن أصلاً نحارب التصحيح؟!
حينما يصل أي فرد إلى مرحلة يقول فيها بأنه «كفر بقناعاته»، فإن ذلك يعني دقاً لناقوس خطر، يعني بأننا خسرنا فرداً هنا وآخر هناك وثالث وراءهم، والسبب ليسوا هم، بل نحن من أوصلهم لحافة الإلحاد.