تكاثفت دول ومنظمات وهيئات وشعوب في ستينات القرن الماضي وأعدت خططاً وبرامج رصينة للقضاء على الأمية تحت شعار «محو الأمية»، وعلى ضوئها سنت قوانين جرمت أولياء الأمور الذين يقفون بالضد منه، بل جعلته إجبارياً ورغبت من لم تسنح له الفرصة للتعلم من مختلف الأعمار بالسعي والتوجه لمراكز التعليم.
أتت تلك الحملات قطوفها وأثمرت أجيالاً حاملة للواء العلم ونوابغ في تخصصات مختلفة من أقصى الريف وأعالي الجبال وصولاً للمناطق النائية، وحتى حافات السواحل والخلجان، فلا تكاد ترى بعد تلك الحملة بيتاً فيه أمي بفضل تضافر تلك الجهود وصدق التوجه وحسن النوايا.
من المؤكد أن الجهل هو العدو الأول للإنسان الذي أورده المهالك، وبفضل تلك الحملة وقبلها الشرائع والأديان، خاصة الدين الإسلامي الحنيف الذي يحث على التعلم، تمكن الإنسان من تخطي عتبة الجهل بمجهود فردي وجماعي ثم توج ذلك أممياً.
لقد عانت شعوب كثيرة وجاهدت وثابرت حتى خرجت من قمقم الجهل، لكنها سيقت إلى خطر أشد فتكاً؛ ألا وهو الطائفية، حيث بات يكتوي بنارها الجميع، فالجهل بعمومه ليس مرضاً بل هو قصور، والجاهل لا يضر إلا نفسه وربما يضر في نواح غير متعمد مجتمعه، فقد عاشت شعوبنا متحابة متآلفة لا ينغص عليها عيشها جهل، إن وجد، ولا اختلاف في قومية وجنس أو دين ومعتقد.
وإلى وقت ليس بالبعيد كانت بلادنا خليطاً من قوميات وأديان وملل وطوائف، ففي الحي الواحد كان يسكن المسلم بألوان مذاهبه وجاره عن اليمين المسيحي وعن يساره اليهودي، بل حتى كانوا يديرون دفة الحياة بتجارتهم وكثيراً من صنعتهم، ولم يمنع جهل بعضهم من توادهم وتعاطفهم وتراحمهم.
لقد ابتلينا بداء أشد فتكاً في الأمة من الأمية ألا وهي الطائفية التي تسللت على حين غرة بعد تخطيط خبيث بذرت نبتته الفتاكة السامة مستغلة ضعف الأمة بعد سقوط الخلافة العثمانية، وترعرعت عند (استخراب) الأمة، ولا أقول استعمارها، فالاستعمار هو رديف للتعمير والإعمار، ثم تجذرت وأزهرت حنظلاً بعد أفول دول بعينها وبزوغ أخرى استغلت ووظفت الظروف، ليس لصالح المنطقة والشعوب بل لأجندتها الصفراء ولتصدير فكرها وثورتها، فاجتاحت عالمنا الإسلامي فتن وفوضى عارمة، ظاهرها كباطنها، حيث تم وبمنطق التسلط والقوة تجميد مبدأ التقية الدينية والسياسية الذي لم يعد لهما ضرورة ترجى.
ونشأت بسببه مليشيات وجماعات ومنظمات إرهابية لفرض واقع مرير، وبظلم وتمييز وتطرف مشهود نشأت على الطرف الآخر مجاميع عانت كثيراً وتم استغلال معاناتهم لتتشكل بالضد قوة ليست بأقل إرهاباً وشراسة من الأولى، وأرهب الناس وتمزقوا واستبيحت بيضتهم.
وإن استمر هذا المد الطائفي المقيت فسيكون كالطوفان الذي سيقتلع الأخضر واليابس، وربما سيكتوي قريباً بناره من أججه وصدره، فتقلبات السياسة كتقلبات الرياح لا يؤتمن لها جانب.
عليه بات لزاماً على المجتمع الدولي وقادة الدول الإسلامية والعربية والمنظمات العالمية والهيئات الدولية ورابطة العالم الإسلامي ورجال الأزهر الشريف والمرجعيات المعتدلة، وبكل توجهاتها وطوائفها، تدارك الأمر قبل فوات الأوان بإطلاق حملة لاجتثاث ومحو الطائفية التي تفوق بضررها الأمية، وإسكات منطق القوة والرصاص والثأر والانتقام والتحريض وتشويه حقائق التاريخ وتأجيج الفتن، والنهوض بتثقيف المجتمع والعمل على بث روح الألفة والتسامح والالتفاف حول الأوطان واحترام الاختلاف في الفكر والمعتقد، وتفعيل دور العقل والحوار وتغليب مصالح الناس.
قبل أن يقع المحظور ويفور التنور؛ بات على الجميع وضع كل الخلافات والاختلافات جانباً والبدء بترميم الدار الذي شارفت على الانهيار، وإن بقي الجميع، ولاة وقادة وآمرون ومراجع وفقهاء ومحدثون، مكتوفي الأيدي ومتفرجين ويحسبون أنهم من السيل ناجون فهم جد واهمون.
مسؤولية الذود عن الأوطان والشعوب وتنقية الأجواء وحفظ الأرض والعرض في رقابكم يا أخيار هذه الأمة، فاقتلعوا الطائفية من جذورها بعد أن تجففوا منابعها وتقييد رؤوسها وإسكات الأصوات النشاز فيها قبل فوات الأوان، وستقطف الأجيال زرعكم، فلا تغادروا الدنيا قبل أن تغرسوا هذه البذرة لتحتسب لكم.