ثمة إعادة نظر في مفهوم الواقع والمحاكاة في الدراسات الثقافية الجديدة، يتحدثون عن الواقع الذي نعيشه باعتباره عالماً مزيفاً وهو أكبر عملية محاكاة يتعامل معها الفرد العربي، تحديداً وأننا صرنا في حالة تواطؤ مع هذه المحاكاة وقبول بها حد التصالح.
تشير معطيات الواقع حولنا أن العرب يمتلكون، حسب المقولات الشائعة، أفضل الدساتير وأرقى التشريعات، وبرلمانات عريقة وتنظيمات اجتماعية ونسوية عديدة، ولكن هذا لا يعني أننا مجتمعات حيوية وديمقراطية. بل إن التجربة أثبتت أننا نعاني من الديكتاتورية الفردية التي هي أخطر من الديكتاتورية السياسية.
وتشير المعطيات، كذلك، أننا نستهلك أرقى الماركات العالمية وأفخم السيارات وأحدث الهواتف النقالة وأننا في المراتب الأولى عالمياً في استخدام التكنولوجيا، وأن ناطحات السحاب في بلداننا تسد عين الشمس. ولكن هذا لا يعني أننا متحضرون. بل هو مؤشر من مؤشرات التخلف وتعطل حركة الإنتاج والتصنيع المحلي؛ ويعكس ثقافة استهلاكية تربط حركة الحياة والتقييم الاجتماعي بقدرة الفرد على الاستهلاك لا قدرته على الإنتاج. وتقدم لنا معطيات الواقع الظاهر أن أعداد الجامعات في العالم العربي في ازدياد وأن فروع الجامعات الأوروبية والأمريكية العريقة أخذت تنتشر في العديد من الدول العربية، وأن الحاصلين على المؤهلات الأكاديمية العليا في العالم العربي في اطراد، ولكن هذا لا يعني أبداً أننا متقدمون في المجالات العلمية، فنسبة القراءة في الوطن العربي في أدنى المراتب ونسبة الإصدارات المعرفية والأبحاث الأكاديمية منخفضة جداً. وقد تحولت الشهادات الأكاديمية إلى «برستيج» اجتماعي ووسيلة من وسائل الارتقاء الوظيفي الآلي.
هذا المشهد الافتراضي السابق خلق إنساناً عربياً مزدوجاً لا ينكر مظاهر التقدم والمدنية المحيطة به ولا ينكر أيضاً حالة التخلف والتردي التي يشاهدها بالعين نفسها. وقد زاد من ازدواجية العربي اندماجه الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى منبره الأثير للتعبير عن آرائه وأحواله وبناء كون خاص له يزينه بصوره التي يلتقطها في كل مكان ومقاطع الفيديو التي تعبر عن حالته المزاجية. فالمواطن العربي يسير في الشارع والحي والعمل صامتاً حذراً يحسب لكلامه ألف حساب، وهو قابل بكل ما حوله، ثم يتحول إلى ثائر في حسابه الشخصي على الفيس بوك وتويتر يخطب الخطب العصماء وينتقد الواقع الراهن ويحلل الأحداث السياسية وينظر خططاً لإصلاح الحال وبناء المستقبل. المواطن العربي يعيش متقمصاً شخصيات عديدة ومتناقضة يفرضها عليه الواقع القاسي وغير المنضبط المحيط به.
تلك الظواهر الاجتماعية المعقدة يقابلها ضعف كبير في مستوى الدراسات الاجتماعية والإنسانية والثقافية للواقع العربي التي يمكنها تشخيص مكامن الانفصام والخلل في الشخصية العربية المعاصرة وتقدم افتراضات مقبولة لتقويم حالات الازدواج الاجتماعي. وباختبار بسيط يمكننا تطبيقه على أنفسنا بطرح سؤال ذاتي: كم نسبة الصدق إلى التقمص التي نمارسها في حياتنا اليومية؟ ربما تكون الإجابة الصادقة مذهلة!.