دائماً ما نردد كلمة «الوعي»، ودائماً ما نقرن كثير من الأمور التنموية بهذا المصطلح، ونقول بأن تقدم الشعوب يكون من خلال «تنمية الوعي»، أو «نشر الوعي».
لكننا أبرع من يستخدم الكلمات والمحسنات اللغوية، نحن أفضل من يتكلم، وأفضل من يبتكر الشعارات، لكننا في أدنى مراتب سلم الأفعال وتطبيق ما نقول.
الوعي مشكلة يعاني منها مجتمعنا، مشكلة نجدها في كثير من الأمور، ابتداء من مسألة الحقوق والواجبات، مروراً بالممارسات اليومية، ووصولاً إلى القناعات التي بموجبها تسير حياتنا.
بناء الوعي ليست مسؤولية الدولة في مراحل أولى لدى الإنسان، بل هذا الوعي يبدأ من البيت نفسه، يبدأ من محيط الفرد، يفترض بأنه يرضعه الطفل مع اللبن الذي يرشفه من صدر أمه، يفترض بأن يزرعه فيه والده وأقرانه الأكبر منه، بعدها يعزز وعيه بما يكتسبه من مدرسته، ويحاول التطبيق في مجتمعه.
حينما نرى أطفالاً وشباباً ينهجون أساليب خاطئة في المجتمع، لا يلتزمون بأخلاقيات المجتمع ولا أدبياته، لا يلتزمون بالقانون، بل يزيدون على ذلك بالخروج على القانون والتحول لمجرمين عبر تصرفاتهم، هؤلاء عندهم مشكلة في الوعي، وقد يكون سببها المحطة الأولى في بنائها ونعني المنزل.
أيضاً تزيد الكارثة حينما تتحول منابع علم وتأهيل وتربية أخرى لممارسة دور مقلوب في زراعة الوعي، ونعني هنا المنابر الدينية والمساجد، حينما ينحرف الخطاب والتوجيه، فبدلاً من محاولة تهذيب النفوس عبر التصرفات وزراعة الأخلاقيات والتذكير بكيف يكون الإنسان صالح العمل في دنياه ليضمن آخرته، تتحول بعض المنابر لبؤر تخريب لأي وعي حميد، تتحول لمنابر تحريض وبؤر حض ودعوة على تغييب الوعي وعلى ممارسة كل فعل سيء خاطئ.
حينما نرى التخريب وممارسات الإرهاب وسد الطرقات وحرق الإطارات ورمي المولوتوف، ونرى فاعليها من شباب وحتى أطفال، هنا ألسنا نرى حالة فعلية من ضياع للوعي، والمؤسف أن كثيراً منها حالات تغييب مبرمجة للوعي.
المتاجرون بالبشر حتى تنجح تجارتهم لابد لهم من استغلال البشر، والإنسان يكون عرضة للاستغلال والاستغفال حينما يغيب وعيه، وحينما يترك قراره وناصيته بيد شخص آخر، إما اعتقاداً منه بأنه غير مؤهل للتفكير السليم، أو انخداعاً بصفة المتاجر بالناس وأرواحهم ومصائرهم.
كم رجل دين ظن الناس فيه خيراً، فإذا به يستغلهم لأجل مكاسبه ومصالحه ولأجل خلق هالة حوله ولأجل صناعة مريدين؟! وكم من مدرس أو محاضر بدل ممارسة دوره في التنوير يستغل موقعه لغسل الأدمغة ولتحريف الفكر خدمة لأجندات؟! وكم وكم من الناس الذين يعيشون على استعباد إرادة الناس؟!
زراعة الوعي لا تكون في مراحل متأخرة من عمر الإنسان، فكبير السن حينما تتغير قناعاته ويتغير مساره ويتغير سلوكه، فإن ذلك يكون نتيجة انقشاع غمامة كبيرة عن عينيه، بالتالي هي ليست عملية بناء للوعي بقدر ما هي تصحيح للمسار عبر الطريق الصعب، والذي نعني به خضوع الإنسان لتجارب قسرية في حياته يتضرر منها أكثر من استفادته، وعليه فإن عودته للطريق الصحيح تكون بمثابة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من كيان ومصير ومستقبل.
الوعي منذ الصغر هو المطلوب، دور الآباء والأمهات أساسي، وربط ذلك بمستقبل أبنائهم وعلى ماذا يريدون أن يروهم وكيف يتمنون لهم العيش، وتزيد المسؤولية بضرورة عدم تركهم فرائس لكل من تسول له نفسه استغلال البشر للوصول إلى مآربه.
كم كان الوعي وصنع الإرادة الشخصية وفق قناعات وثوابت وأعراف، كم كان حامياً للناس، وكم كان غيابه سبباً لدمار أمم وشعوب وضياع مستقبل آلاف من البشر.