ما يجري من حراك سياسي ومواجهات عسكرية في أكثر من بقعة ساخنة تدار عن بعد ومركزها منطقة الشرق الأوسط وما يرافقه من تحركات دبلوماسية مكوكية وإعادة تشكيل التحالفات؛ يوحي بلا شك أن هنالك أمراً جللاً يلوح في الأفق، وبات الجميع يحبس أنفاسه ولا يعلم مصيره في ذلك الإعصار الذي يضرب المنطقة من كل حدب وصوب.
فبعد أن سقطت الأقنعة وتكشفت الأوجه الحقيقية التي كانت لعقود تمارس دور راعي الإنسانية والسلام، أصبحت الأمور اليوم جلية وأزيح الستار عن الكواليس المظلمة، فعقدت الصفقات في العلن وفوق الطاولة لا تحتها.
نعم أقول ذلك بحسرة؛ فقد استغفلتنا أمريكا «الشيطان الأكبر»، واستدرجت المنطقة وطعنتها في المقتل، ومكنت منا أشرس عدو تضرب أطماعه وعدائه الفكري والعقائدي في عمق التاريخ، ووضعت كلتا يديها في جبته وعمامته بعد أن غسلتهم وعقمتهم تماماً من آثار العرب، فلم يعد بالإمكان العودة للمربع الأول، ومن الصعوبة بمكان أن يتم تفادي ذلك الإعصار بالركون إلى المصدات البالية، ومن سيدفع الثمن الباهظ لا شك هو شعوب المنطقة المغلوبة على أمرها.
لقد وصل الأمر في اللعب على المكشوف أن يصدر تصريحاً مدوياً من طهران على لسان علي يونسي مستشار الرئيس حسن روحاني، قال فيه «لقد أصبحنا أمبراطورية وعاصمتنا بغداد!»، وعقبه تصريح استفزازي وقح لموقع عماريون الإخباري الإيراني عندما نشر «للشيعة ثأر تاريخي مع تكريت منذ أيام صلاح الدين!».
وحق لهم التفاخر والتباهي؛ كيف لا وملالي إيران يتقدمهم الولي الفقيه قد تربعوا بدهاء في قلب الوطن العربي المسجى في بغداد وأذرعهم كالأخطبوط ممتدة إلى الشام واليمن ولبنان، وخلاياهم النائمة تعمل ليل نهار لابتلاع عواصم جديدة أصبحت معلومة وظاهرة للعيان.
فبعد ذلك التصريح لا نستبعد أن يصار لترويج فكرة ضم العراق لتلك الإمبراطورية الفارسية باستفتاء يشبه إلى حد كبير ضم القرم لروسيا، ولا نستبعد أن يتم تعيين الولاة والأمراء على شاكلة الفرمان العثماني.
ما يلفت النظر في هذه الأيام هو الاجتياح الإيراني للعراق بعشرات الآلاف من قوات الحرس الثوري تحت قيادة قاسم سليماني بحجة ملاحقة فلول «داعش» دون أي اعتراض دولي أو أممي، وكأن العراق هو الضيعة الإيرانية المغتصبة، وما سيادة العراق واستقلاله المزعومين إلا ثمة أوراق محفوظة في سجلات الأمم المتحدة وغدت من الآثار والمخطوطات.
ما زاد الطينة بلة تصريح الجنرال الأمريكي ديمسي، الذي لو التزم الصمت لكن خيراً من أن يستخف بعقول العامة حينما استقل طائرته متوجهاً إلى العراق مباركاً انتصارات إيران وحرسها الثوري في المعارك التي تدور رحاها عند مشارف تكريت، ومؤشراً على وجل لا محذراً إلى ضرورة الحفاظ على المكون السني من الانتهاكات، وهو يعلم قبل غيره أن ذلك المكون قد استبيحت دماؤه ودنست أرضه بمرتزقتهم ثم بداعش صنيعتهم، وليس آخرها بقوات الحرس الإيراني والمليشيات، وكلها تتحرك تحت علم ومباركة إدارته.
الوطن العربي اليوم برمته في وضع هش ومتآكل وحشر في نفق مظلم، وقد أطبق عليه بين مطرقة الصهيونية العالمية والشيطان الأكبر وسندان الولي الفقيه، فلا يتوهم بعد الآن أحد أن هنالك صراعاً يدور بين طرفين وأيدلوجيتين؛ بل هو تكالب وتقاسم نفوذ أدواته على الأرض معلومة، وإن كان يبدو للوهلة الأولى صراعاً وجبهات، لكن في الحقيقة هو الدهاء والمراوغة وحيل ومكر قادة الحروب وتجارها، فهدفهم واحد حتى إن تطلب الأمر التضحية ببضعة المئات من القوات والمعدات والأموال مقبوضة الثمن للفت الأنظار عن مخططهم الذي يرمي إلى إغراق المنطقة بالفوضى ثم إعادة عجنها وشبكها وصهرها ثم صبها في قوالب معدة لهذا الغرض.
فإن كان هنالك بصيص أمل للإفلات من هذه الكماشة والمقصلة الرهيبة فيتمثل بتوحد البلدان التي وصلها الدخان قبل النيران، وأن تتحرك خارجياً وتتعجل بالمصارحة والمواجهة مع الحلفاء التقليديين وتسخيير ما تتمتع به من قوة اقتصادية لتشكيل تحالفات جديدة، متزامنة مع تحرك داخلي برص الصفوف والضرب بيد من حديد فوق رؤوس العملاء والمدسوسين وعدم التهاون في التصدي لأي خرق أمني بعد اليوم، والذي يسعى منفذوها لجلب الخراب للأوطان، فبهكذا خروقات يتم جس نبض الدول ليعلم يقظتها من غفلتها.