مهما حاولت العولمة والحياة العصرية وحداثتها أن تتسلل بين ثنايا حياتنا اليومية إلا أننا نبقى الشعب العربي بكبيرنا وصغيرنا بالرغم من كل ما يحيطنا من سلبيات التقليد الأعمى للمجتمعات الغربية، نبحث عن الأصالة والعراقة في دهاليز يومنا. وبدون سابق إنذار نجد أنفسنا نردد مثلاً قديماً يحمل حكمة أو عبرة تنطبق على واقع حالي نعيشه أو نستعين بإحدى وصفات الأجداد مهما دار عليها الزمان، ولكن لمعرفتنا مسبقاً أنها إذا ما نفعت إلا أنها بالتأكيد فلن يأتي منها مضرة.
لذا فلو رجعنا بذاكرتنا إلى الوراء ونتأمل قليلاً لوجدنا أن حياتنا الشخصية في الصغر كان يسودها الكثير من البركة، وأن كل ما نقوم به فيه النفع الكثير. محاولين أن نعمل مقارنة بين الماضي والحاضر ونعرف السبب لكل تلك المحاسن والجماليات، لوقفنا عاجزين تائهين عن السبب، ولكن الجواب يكمن في حرفين صغيرين ذوي معنى وقيمة لا يقدران بثمن وهي الـ«أم».
فكانت أكبر آلامنا ومآسينا وأوجاعنا تمسحها كف «أمنا»، حتى إشراقة وجهنا وحرائر شعورنا ورزانة تصرفاتنا كان ولايزال مصدرها أمهاتنا. على سبيل المثال، فبكل ما كانت تحمل تلك المستحضرات سواء الطبية أو التجميلية من بساطة وبدائية في التركيبة الصناعية في الزمن السابق إلا أنه كان لديها المفعول السحري الإيجابي علينا والسبب لا يخفى على أحد. فكانت توضع لنا من قبل أمهاتنا.. كانت بسم الله تستهل وبيد ملؤها الحنان والطيبة تبدأ وبقلب صاف وحنية لا تقاوم كانت تحول العلقم إلى بلسم. وفي حال أردنا نحن اليوم أن نعاود الكرة ونستخدم ما كانت تستخدمه لنا، لما وجدنا النتيجة ذاتها، وذلك لأن من «يدها هي أكيد أحلى وأبرك»..
فالتحدث عن محبة، تضحية، عطاء «أم» واحدة موجودة على هذه الكرة الأرضية سوف يستغرق دواوين كثيرة، وأنا في خضم الكتابة عن هذه المناسبة القريبة إلى قلبي مثل ما الكل يعلم «يوم الأم» أجد تعابيري تخونني والعبرة تحرق عيني لا أتمكن من الكتابة وأنا أستحضر أمام عيني جموع الأمهات التي تقتل في هذه الحروب الهمجية في كل أنحاء الأراضي العربية.
في صغري كنت أحاول أخفي خبر ما اشتريت من هدية لغاليتي «أمي» عن صديقتي يتيمة الأم التي أشاركها مقعدي الدراسي أيام المرحلة الابتدائية كي لا أسبب لها أذى نفسياً، ولكن أنا الآن يعتريني خجل كبير وقهر لا يقاوم عندما سأستلم هدية أبنائي في هذه المناسبة التي تنتظرها كل أم في السنة، وفي المقابل أطفال كثر يسألون ما هو مصيرهم بعد تيتمهم وتشردهم وضياع حالهم وانصهار مستقبلهم مع مرارة هذه الأيام التي تمر عليهم. أضعف كثيراً لحد الانهيار عندما مشاهدتي لطفل مستعيناً بدموعه مبللاً كفيه الصغيرين محاولاً أن يمسح آثار الدماء عن وجه أمه التي تحدق فيه بعينين ملؤها الدماء والأسف معتقداً أن اجتهاداته في إيقاظها سوف يكون لها جدوى وأنها ستستيقظ من سباتها العميق لتغمره بذراعيها وهو لا يدري أن حياة كلها البؤس سوف تكون بانتظاره، مهما حاولنا نحن جماعة العرب الذين نتميز بالإنسانية الوهمية من أن نغمره بالتبرعات المالية والعينية، فهذا كله لم ولن يعوض دفء وحنان غاليته.
فالقلم يعجز عن الكتابة في آباء وأمهات ترثي أولادها، وأطفال عزل وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها ميتمين مشردين عن أحضان ذويهم لا ملجأ ولا مكان ولا عنوان.
فالأم ليست يوماً بل هي أيام السنة مجتمعة بكلمة واحدة اسمها محبة. وبر والدينا هو أمر مكلفون به شرعاً إذا كنا لأحوال ديننا من العارفين. فبرهما لا يوازي كنوز الدنيا بأكملها ولا يجوز أن نختصره بهدية مجاملة يوم زائل بالسنة.
حفظ ربي أمهات وآباء الجميع ورحم من أصبح يتغمد جسمه التراب.