أجمل ما في البحرين، وكل ما فيها جميل، المجالس العامرة بروادها، وتلك ميزة وإرث توارثته الأجيال ونجحت بتفوق في المحافظة على طقوسه وأدبياته، تلك المجالس التي لا يحتاج من يقصدها لدعوة مسبقة أو استئذان، ولا يجد أي حرج في دخولها أو مغادرتها متى ما طاب له ذلك..
وما يجعلها مناراً ومحط استراحة للجميع بساطتها وابتعادها كلياً عن التمييز الطبقي، فلا يجد المواطن، بل وحتى المقيم، حرجاً في ارتياد أي مجلس يحلو له، فكل أبوابها مشرعة مضاءة مضيافة كخيم ومضايف حاتم الطائي، عنوان وسنام الضيافة العربية والكرم، بدءًا بمجلس سمو رئيس الوزراء أطال الله عمره وعطاءه، ومجلس سمو ولي العهد حفظه الله، وقبلهم مجالس المغفور له بإذن الله سمو الشيخ عيسى بن سلمان والمغفور له سمو الشيخ محمد بن سلمان آل خليفة وشيوخ ورجالات آل خليفة أدامهم الله حصناً منيعاً لهذا البلد الكريم المعطاء، والتي هي مناراً وملاذاً لكل البحرينيين وبكل أطيافهم، مروراً بكل مجالس الوجهاء والمسؤولين وعوائل البحرين الكريمة الضاربة جذورها في القبائل العربية العريقة التي يضيق المقال بحصرها.
لتلك المجالس محاسن وإشراقات كثيرة؛ من أبرزها أنها اختزلت للمواطن الوقت والجهد ليكون وجهاً لوجه أمام من يقصده ليأخذ بيده ويعبر به إلى بر الأمان ويضع عن كاهله إصر الحياة وإرهاصاتها، ولتحقق له تلك المجالس ما تعجز أحياناً أبواب الحكومة بكل مسمياتها التقليدية والإلكترونية من تلبية متطلباته.
وما كان ليتسنى لتلك المجالس وروادها الديمومة والنشاط والتواصل لولا ذلك المناخ المشاع من الحرية، حيث إن نشاطها كان قبل عهد الميثاق الوطني يقتصر على تبادل بعض الآراء المقتضبة والاطمئنان على أحوال ومعيشة الحاضرين، وبأحسن الأحوال يتم التطرق على وجل لمعاناة الفريج ونقص بعض الخدمات في الحي، لكن القفزة الهائلة التي واكبت فعاليات تلك المجالس بدأت مع بزوغ شمس الميثاق، الذي يتوجب على كل بحريني الاعتزاز والتمسك والعمل به.
حيث أعطى الضوء الأخضر لتلك المجالس لتكون رديفاً للدولة ومؤسساتها، وكذلك معيناً لمجلسي الشورى والنواب والمجالس البلدية، وجعل منها منبراً حراً يصدح بالحق، وفتح لها الأبواب على مصراعيها في تناول أي مفصل يهدف لخدمة المواطن والنقد البناء لأي تصرف من أي مسؤول أو جمعية أو حركة دون خوف من مساءلة أو مضايقة، وهذه هي حرية الكلمة بأبهى صورها ومعانيها، وما زاد من رفعتها ومكانتها تكرم سمو رئيس الوزراء وسمو ولي العهد -حماهم الله- في التواصل مع تلكم المجالس وأهلها، والمواظبة على زيارتها في شهر رمضان والعديد من المناسبات المختلفة مما أكسبها الدعم المعنوي والشرعية.
فإن أراد متابع منصف أن يقيس مقدار ما يتمتع به المواطن البحريني من حرية تعبير؛ فما عليه سوى القيام بزيارات غير مسبقة التحضير لمجالسها ليرى بأم عينه وليسمع بصفاء أذنيه ما يدور فيها من أحاديث ومحاضرات ومداخلات، تمدح تارة وتؤشر تارة أخرى لتصرف وزارة أو مسؤول في الجهاز الإداري، ولا أبالغ إن قلت حتى الغوص في مقررات المجالس التشريعية بشقيها، بل حتى في المواقف السياسية والدولية وموقف حكومة البحرين منها دون أي تحسب أو تردد.
وما يثبت صحة هذا الطرح أنه لم نسمع أن أغلق مجلس أو تم مساءلة محاور أو مشارك أدلى بدلوه، فهذه من ثمار هذه المجالس العامرة التي استوعبت وطبقت مفهوم الحرية التي كفلها لها الدستور والميثاق بأبهى صوره ومعانيه تحت راية عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه للبحرين وحفظ البحرين به.
هذه هي الصورة المشرقة والمشرفة للمجالس البحرينية الضاربة في تاريخ البحرين، والتي غدت معلماً ومنبراً للحرية والكلمة الصادقة، والتي تتفاعل يومياً في المجتمع لتخرس بعفويتها ومسيرتها الألسن ممن يتشدقون زوراً بحقوق الإنسان والديمقراطية. بعد كل ذلك ألا تستحق هذه المجالس وروادها إبراز دورها المتميز في مسيرة المملكة، وأن يخصص لها يوماً من كل عام يحتفى بها ويكرم من بقي من مؤسسيها ومن حافظ على نهجها من ورثتها ومن يسير على أثرها؟!