ترتيب أوجه الصرف والاتفاق على الأولويات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بغرفتيها ممكن أن يساعدنا كثيراً في تخطي موضوع الميزانية ومرسوم الدين العام.
وهنا لا أريد أن أضع الثقل على وزارة المالية فحسب في تحديد الأولويات وأوجه الصرف، إنما السياسة الاقتصادية هي التي تحدد السياسة المالية حيث تتحول وزارة المالية إلى «كاشير» فقط تستلم الفواتير وتدفعها حسب ما يقدم لها، ومن يرسم «السياسة الاقتصادية» هما السلطتان معاً لا التنفيذية فحسب حتى تكون الصورة واضحة أمام الجميع.
إنما حتى اللحظة دور السلطة التشريعية مازال قاصراً على رفض ما تقدمه الحكومة من تصورات لأوجه الصرف والاعتراض عليها وعاجزة عن وضع تصوراتها الخاصة بها عن طريق الكتل البرلمانية أو حتى المستقلين إن كانوا يملكونها، مما دفع وزير المالية لتحدي أحد النواب بقوله «إننا منفتحون على كل الاقتراحات و ننتظر من النائب أحمد قراطة أن يضع لنا تصوراته على الميزانية الجديدة» في إشارة إلى أننا كحكومة قدمنا رؤيتنا قدم لنا أيها النائب المعترض عليها رؤيتك.. وهو محق.
قد يكون رأينا في سياستنا الاقتصادية أنها سيئة للغاية ولدينا العديد من الاعتراضات عليها لكن ذلك الموقف لا يمكن أن يصمد طويلاً ما لم تكن تملك البديل، والتحدي الذي طرحه وزير المالية على المجلس النيابي تحد كبير يضعهم أمام مسؤولية جسيمة بتقديم البديل القابل للتطبيق، وهذا بحد ذاته -إن حصل- نكون قد انتقلنا إلى مرحلة متقدمة من العمل السياسي، لأنه جرت العادة في الدول التي سبقتنا في تجربتها الديمقراطية أن تمتلك الكتل البرلمانية برنامجها الخاص لإدارة الموارد تستقيه من عمل دؤوب يسبق تقديم الميزانية ويضع البدائل التي ترى تلك الكتل أنها الأفضل عما ستقدمه الحكومة، وما يجري التصويت عليه رفضاً أو قبولاً هو المفاضلة بين الرؤيتين.
إنما لا يجب أن يقف هذا التحدي الكبير عائقاً مخيفاً أمام المجلس النيابي، فأمامه شهر من يوم تقديم الميزانية ويستطيع طلب التمديد إن أراد أن يضع تصوراته الخاصة بالاستعانة بالخبرات الموجودة في الغرفة الثانية وبالاستعانة بالخبرات الموجودة في المؤسسات الأهلية وحتى لو اضطر الأمر الاستعانة بخبرات أجنبية تعينه على إعادة ترتيب أوجه الصرف وتبديل الأولويات لتقدم البديل الذي يغني الطرح والنقاش ويفتح آفاقاً جديدة ويختط نهجاً ديمقراطياً جديداً ينتقل بنا إلى مرحلة متقدمة من العمل السياسي.
إن رفض مرسوم طلب رفع الدين العام ليس حلاً بحد ذاته ما لم يكتمل بوجود البدائل وما لم يكمل بالتعاون والتنسيق بين الغرفتين، عدا ذلك فإنه مجرد استعراض عضلات لا أكثر ولا أقل.