يبدو أن قرارات أمريكا الحتمية في رسم شكل المنطقة بات وشيكاً جداً، نحن نقول هنا وبالفم المليان بأنها «قرارات» ولم نستخدم «توقعات» أو «تنبؤات»، فواشنطن لا تتوقع أبداً، وليس لها علاقة بالتنبؤ وبقراءة الكف والفنجان، وإنما تسير على نهج سياسي معلوم، ربما وضعه هنري كيسينجر قبل نصف قرن من الزمان، وهو صالح حتى هذه اللحظة.
التوقعات والصدمات والمفاجآت وقراءة الفأل والحظ هي سلوكيات نابعة من ثقافة عربية صرفة، فنحن نتنبأ بحدث سياسي ما، ربما نصيب في توقعاتنا وربما نخيب، أما بقية الأمور عندنا فإنها تسير على «البركة»، بينما الغرب وعلى رأسه أمريكا يؤكدون بوقوع الحدث «الفلاني»، لأنهم من خطط لشكل الأحداث والوقائع السياسية المستقبلية، فالغرب يخلق الفعل وليس ردود الفعل، وهو من يقرر شكل الحاضر وطبيعة المستقبل.
الكثير من العرب يؤمنون أن ما تسير باتجاهه منطقتنا اليوم من أحداث وفوضى وثورات وإرهاصات، هو بفعل سلوكيات سياسية عابرة أو بسبب مفاجآت طارئة خلقتها الظروف السياسية، بينما الذي يحدث على أرض الواقع هو عكس هذا الفهم الساذج، فأمريكا ترسم مراحل للتغيير السياسي في عالمنا، وهي تعرف جيداً ما سيحدث وما هو شكل المستقبل، لا شيء عندها يسير «على البركة» وإنما «البركات» ثقافة عربية، فالعرب وحدهم الذين ينتظرون الفعل ليكون لهم ردود فعل لا تتناسب وحجم الفعل في عالم السياسة مع كل الأسف.
الحاكمية السياسية اليوم للأقوى، لمن يقوم بتخطيط حاضره لضمان مستقبله، فأمريكا ومن منطلق مصالحها الحيوية قامت بفرز الواقع السياسي والاقتصادي حسب مقتضيات المصلحة، فاستبعدت الضعيف وأبقت على القوي، وألغت أنظمة وأيدت أخرى، وأسقطت اقتصادات دول ودعمت دولاً غيرها، حتى تشكل العالم اليوم وفق رؤى أمريكية بحتة، علم مفصل حسب مقاسات مصالحها المستقبلية وليست الآنية فقط.
الربيع العربي وما سبقه وما تلاه، والمخاضات والحروب والثورات والفوضويات التي تعصف بالمنطقة حالياً، لم تأت من رحم المجهول أو من وجود فراغ سياسي كما يتوهم بعضنا، إنما هي سياسات أكيدة جاءتنا على دفعات، وإن حدثت بعض التغييرات في السياسة الغربية / الأمريكية، فإنها تقع دائماً في خانة الاحتمالات الواردة، ولكل من هذه التغيرات تراتبيتها في سلم الأولويات والمصالح، ليس عند الغرب اليوم ما يسمى «بالبركة»، فهذه الدول الكبيرة لديها استراتيجيات قصيرة الأمد وأخرى بعيدة المدى، وكل من هذه الاستراتيجيات تخضع لعناوين المصلحة والمنفعة، إذ ليس لدى الدول العظمى صدقات وأعمال خيرية لبناء واقعها فضلاً عن مستقبلها، وإنما لديها أعمال ناجزة في رسم وجودها من أجل الحفاظ على تسيدها قمة القمم. متى سنتعلم الدرس؟ ومتى سنخلق فرصاً للحل؟ وكيف سنفرض الفعل لا ردوده؟ وهل سيأتي اليوم الذي نقوم فيه بتغيير المسارات الاستراتيجية والعسكرية للدول العظمى؟ أم سنفقد قدرتنا وثقتنا بأنفسنا في أن نكون رقماً صعباً في المعادلة الدولية حتى في منطقتنا التي نعيش فيها؟ الحلم العربي هو أن نكون مبادرين وخلاقين وأقوياء، وأن نكون أصحاب قرار حاسم في وجه الأمريكي والغربي وكل من له أطماع في منطقتنا العربية من الدول الكبرى والصغرى، فالكل بدأ يتكالب على العرب كقصعة فوق مائدة المانحين الكبار، فهل سنظل مدى الحياة كمشاريع «ظل»؟ أم سيأتي اليوم الذي سنتحرر فيه من الهيمنة الغربية والشرقية عبر سلسلة من الأفعال التي يمكن لها أن تؤثر في العالم لا أن تتأثر به؟