من أسباب زيادة الدين العام ووصوله لمستوى خطر قد يتعدى المليارات السبعة أن هناك «ثقافة» تهاون وتخفيفاً في التعامل مع الأرقام
لا يوجد نظام فعال سواء في عملية التخطيط والتنفيذ والمتابعة ويسعى للإنجاز يغفل عن الأرقام وأهميتها، بل لا يكلف نفسه متابعة صعودها وهبوطها.
بالتالي نقول ونؤكد دائماً بألا تستهينوا أبداً بالأرقام، ولا تصلوا لمرحلة يكون فيها التعامل مع هذه الأرقام بأسلوب التعود بحيث لا يهم ضخامة الرقم أو فداحته أو مؤشراته، لأنه إن حصل ذلك فإن أي منظومة معنية مهددة بالانهيار.
بالنسبة للمواطن البسيط فإن الأرقام التي تمسه مهمة جداً، ولذا ترون بأن مبلغ 50 لعلاوة الغلاء مهم جداً للمواطن، والمطالب تصب في خانة زيادته وترفض توقفه.
وبنفس الحال فإن الأرقام الضخمة التي يوردها تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية والتي تبين حجم الهدر المالي أو عدم النجاح في توظيف أموال الموازنات في أوجهها الصحيحة أو بطرق حصيفة، هي أرقام لا يجب أن تمر علينا مرور الكرام.
للأسف نقولها هنا بأن تكرار إيراد هذه الأرقام واستمرار نشر تضخمها عاماً إثر عام على صفحات الجرائد، ووصلونا لمرحلة نعتبر فيها تقليل الخسائر إنجازاً يستحق الاحتفال، كلها أمور جعلت الناس «تتعود» على قراءة هذه الأرقام بضخامتها دون أن تلقي لها بالاً، بل بات كثير من المسؤولين سواء وزراء ومن دونهم المعنيين بهذه الأرقام يتعاملون معها وكأنها لا شيء يذكر.
هذه كارثة بحد ذاتها، إذ حين نتحدث عن الهدر المالي أو الخسائر في قطاع ما، فإننا لا نتحدث عن 100 دينار أو حتى 1000 دينار، بل نتحدث عن ملايين!
لاحظوا معي كيف أن كلمة «ملايين» بتنا نتعامل معها وكأنها مسألة عادية جداً، بتنا نقولها «مليون» بكل سهولة، متناسين بأن هذا المليون ليس رقماً سهلاً، فما بالكم بهدر يصل لملايين أو خسائر تصل لعشرات من مضاعفات الرقم نفسه؟!
ما يتحدث فيه بعض النواب «الواعين» -ونشكرهم على هذا الوعي بشأن الأرقام- مسألة يجب أن نقف عندها، إذ إحياء مثل هذه الحالات من الهدر، ونشر حالات توصيف لأداء بعض القطاعات مقرونة بالأرقام، عملية مهمة لإنقاذ المجتمع من حالة «التعود» على قراءة وسماع ما يشير لهدر ملايين أو خسائر بهذا الحجم، ومن ثم يأخذها بـ«روح رياضية» وكأن شيئاً لم يكن.
من أسباب زيادة الدين العام ووصوله لمستوى خطر قد يتعدى المليارات السبعة، أن هناك «ثقافة» تهاون وتخفيفاً في التعامل مع الأرقام، كنا نقرأ بشكل دائم عن ملايين تطير هنا وهناك وسوء توزيع وتصريف ويوثقها بنفسه ديوان الرقابة المالية والإدارية، لكن مقابلها لا نسمع أو نقرأ عن محاسبة صارمة لمن أهدر الملايين أو ساهم في خسارتها فيما يخص القطاع، لم نسمع بأن هناك «عقاباً» يوقع على بعض القطاعات ووزرائها بأن يتم تخفيض ميزانيتهم السنوية بسبب ما قاموا بهدره وسوء تصريفه من موازنات سابقة، وغيرها من حالات تعاط مفقودة، بسببها بات سماع كلمة «مليون» أو «100 مليون» ضمن سياق هدر أو خسائر مسألة عادية جداً، لا يكون لها اهتمام يصل حتى لمستوى اهتمامنا بالنشرة الجوية وما إذا ستصدق أم يكون الجو متقلباً مخالفاً للتوقعات!
الاهتمام بالأرقام مسألة هامة جداً، وخير ما يفعله «بعض» النواب حينما يستخدمون تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية والإحصائيات الرسمية في بيان فداحة ما مررنا به من سوء إدارة في بعض القطاعات، هذه الجهود يجب أن تدعم وتشجع شعبياً، ولابد أن يكون لها انعكاس إيجابي على تعاطي الجهات المعنية، فاليوم لسنا بحاجة لتبريرات وذرائع بشأن مصير الأموال وكيف تم تصريفها ولماذا حصلت الخسائر، بقدر ما نريد معرفة ما هي آليات المحاسبة على التقصير وماذا سيتخذ من إجراءات لتعويض الخسائر، وماذا سنفعل لتجنب الوقوع في نفس الحالة المؤسفة هذه؟!
لا يعقل أن تكون هناك قطاعات لا تدخل في ميزانية البلد فلساً واحداً، في المقابل ميزانيتها من الدولة؟! ولا يعقل أن تكون هناك قطاعات تعيد زيادات في الموازنة ونقول لها «ما قصرتم» بقدر ما يجب تقييم عملية التخطيط لميزانيتهم وماذا إذا كانت توضع على أسس أم بأسلوب «اطلب أكثر، واللي تحصل عليه، أحمد ربك عليه»!! بل لا يعقل أن نجد تصريحات لقطاعات معينة في الجرائد تشير لوجود أرباح بالملايين، ثم نأتي للواقع العملي لنكتشف بأن الخسائر بالملايين!!
متابعة الأرقام ومعرفة في أي أوجه صرف تذهب، وهل تم استغلالها والاستفادة منها بالطريقة المثلى، دون وجود هدر أو إعادة توجيه لأوجه أخرى، أو زيادات، كلها أمور من شأنها ضبط عملية الصرف، ومن شأنها التأثير إيجاباً على وضع الدولة الاقتصادي وقد تساعد في وقف الاستدانة والاقتراض الأمر الذي يزيد الدين العام.
حتى الدين العام نفسه، نجد في تقارير الرقابة المالية ملاحظات على بعض حالات الاقتراض السابقة، وكيف أن بعض الأرقام لم يعرف مصيرها، وفي أي أوجه صرفت، وأي قطاع منح إضافة على ميزانيته، بل في فترات لم نكن نحتاج لأي اقتراض، لكن الاقتراض حصل دون بيان واف عن الأسباب لذلك.
المجتمعات العملية لا تحكم على حراكها بـ«الكلام المرسل» ولا بـ«البيانات الإنشائية» ولا بـ«الجمل الرنانة»، تحكم على حراكها بالأرقام فقط، وباتجاهها سواء بالسالب أو الموجب.