تكشف العديد من الأحداث يوماً بعد يوم أن ثمة مشكلة في تلقي «الشعوب» العربية لأزماتها وكيفية معالجتها، إذ ليست كل مشكلات العرب ناجمة عن عجز حكوماتها كما نتصور دائماً؛ فثمة مشكلات يصنعها بعض الأفراد، أو نستطيع القول.. يتورطون بها وقد يورطون الآخرين معهم.
بلغني من أكثر من مصدر اعتزام مجموعة من الناشطين العرب ذوي التوجه القومي العروبي عقد مؤتمر قومي عربي في العاصمة التركية «إسطنبول» لمواجهة الخطر الصفوي، وليس لهذا التنظيم علاقة من قريب أو من بعيد بالمؤتمر القومي العربي قديم التأسيس الذي يعقد مؤتمره مرة كل عام في إحدى العواصم العربية، وفكرة عقد مؤتمر قومي في إسطنبول أو تأسيس تنظيم قومي جديد تنطلق كعملية احتجاجية على تأثير إيران على المؤتمر القومي العربي الذي تبنى في الفترة الأخيرة في توصياته بعض المرئيات الإيرانية في بعض القضايا العربية، حسب تفسير المنظمين.
وعلى الرغم من وجاهة الإشارة إلى النفوذ الإيراني في المؤتمر القومي العربي متمثلاً في نفوذ حزب الله بالدرجة الأولى؛ إلا أن الحكمة لا تقضي الانقلاب على تنظيم عريق وفاعل مثل المؤتمر القومي العربي، خصوصاً أن أغلب أعضائه شخصيات ذات تاريخ نضالي عريق وتميزت بالتوجهات المخلصة للقضايا العربية على مستوى النشاط السياسي أو الإعلامي أو الثقافي، فضلاً عن أن الأسلوب الأنجع هو إصلاح مؤسسة المؤتمر والتغلغل فيها وخلق نفوذ خليجي قوي يواجه النفوذ الإيراني، وإمكانات ذلك مفتوحة؛ خصوصاً أن المؤتمر القومي يعاني من أزمات مالية مؤثرة حدت من أنشطته وفعالياته، كما أن استضافة دول الخليج العربي لجلسات المؤتمر أصبحت نادرة بل شبه معدومة في السنوات الأخيرة.
الحل من وجهة نظر كثير من العروبيين الخليجيين هو تقوية اللوبي الخليجي في المؤتمر القومي العربي وزيادة الدعم المالي للأمانة العامة للمؤتمر ومؤسساتها، وليس الانشقاق عن التنظيم ومحاربته بتنظيم آخر يتشكل بقفزة في الهواء لا تاريخ لها.
المشكلة الثانية في عقد مؤتمر قومي آخر في إسطنبول وربما تأسيس تنظيم قومي ثان، هي أن المؤتمر القومي العربي الجديد سوف يعقد خارج الجغرافيا العربية الواسعة! فلماذا لم يعقد في الأردن مثلاً أو أي دولة في المغرب العربي؟ كما أن تركيا ممثلة بالدولة العثمانية سابقاً وبالجمهورية الأتاتوركية حاضراً، وبالطموح الأردوغاني مستقبلاً لا تصلح لأن تكون حاضناً منطقياً لكيان قومي عروبي، فالتاريخ يسجل العداء العثماني القديم للأقاليم العربية وازدراء العثمانيين للعرب وللمجازر التي قام بها الجيش العثماني في الشام تحديداً، والتاريخ يسجل أيضاً دور كمال الدين أتاتورك في فك الارتباط بين تركيا والأقاليم العربية بعد قيام الجمهورية التركية الحديثة ودوره الكبير في إلغاء اللغة العربية والعدول عن استخدام الحروف العربية في الكتابة إلى الحروف اللاتينية، واليوم في العهد الأردوغاني فإن تركيا قد تحولت إلى المقر الرئيس للتنظيم الدولي الإخواني، الذي يعد العدو التاريخي والأول للأيديولوجيا القومية العروبية بالمفهوم الفلسفي والتنظيمي الذي قامت عليه، الأمر الذي يجعل من دعوة إقامة مؤتمر قومي عربي جديد في تركيا دعوة غريبة قد تنطوي على عملية مغامرة من قبل مجموعة الناشطين غير المنتمين لأي تيار الذين يجمعهم الحماس للتصدي للخطر الإيراني، ولكنهم يفتقدون لأي مشروع أو أجندة منظمة ومنضبطة.
ولا يفوتني أن أذكر العروبيين والإسلامويين السنة من المتحمسين للسيد رجب طيب أردوغان أنه كان أول زعماء العالم طيراناً لإيران بعد إبرام الاتفاق المبدئي حول الملف النووي بين إيران والغرب، وأنه فاز بنصيب الأسد في الاستثمارات المستقبلية مع إيران التي تدشن مرحلة رفع العقوبات الاقتصادية عنها؛ بل إن من ضمن فعاليات زيارة أردوغان لإيران زيارته لقبر الخميني وقراءة الفاتحة على روحه، فلا أستطيع أن أفهم كيف سيتم تنظيم مؤتمر عربي لمحاربة إيران في تركيا!
وحين بلغتني أخبار المؤتمر القومي الجديد في إسطنبول وحيثيات عقده ومبررات الهجوم على المؤتمر القومي الأساسي، تذكرت بعض الأخطاء «الشعبوية» العربية، أحدها كان إعلان كل من حزب البعث العراقي ممثلاً في عزت الدوري، وهيئة علماء المسلمين في العراق ممثلة في الشيخ حارث الضاري، إلى ما سمي بثورة الأنبار التي كانت غطاء لحركة تنظيم داعش في العراق، والتي حين تمكنت من السيطرة على العديد من المواقع في العراق قتلت مئات السنة العراقيين في الموصل والأنبار وتكريت في مشاهد مروعة لم تخطر على قلب بشر! وكانت النتيجة المنطقية أن يتشكل ما سمي بالحشد الشعبي «الشيعي» الذي تأسس لاجتثاث داعش من المحافظات السنية، وحين دخل الحشد الشيعي تكريت قام بعمليات انتقامية من الأهالي تنم عن طائفية ذلك التكوين.
تلك الرهانات الشعبوية الخاسرة نتائجها خطيرة، وهي وإن كانت تنم عن قلة وعي وعجلة واندفاع، فإنها أيضاً تنم عن حالة إحباط وانحلال في الشخصية العربية والتعلق بحبال مسدلة في الهواء لا توصل إلى شيء. أما الذين سيتوجهون للمؤتمر القومي العربي في عاصمة كمال الدين أتاتورك القومية التي عادت العرب والإسلام عداء فاحشاً فنقول لهم من أي شرعية سوف تعبرون عن القوميين العرب؟ ومن هم القوميون الذين ستتحدثون بلسانهم؟ وهل تكفي مشكلة العرب ضد إيران لتشكل تنظيما خاصاً يحمل عنواناً عروبياً؟ ومن هم رعاتكم وممولوكم ورموزكم الذين سيقودون المؤتمر؟ أسئلة قد تعبر إجاباتها عن نقلة فكرية أو ورطة قومية.