تدور في مصر الآن تحديداً، وربما في بقعة عربية أخرى، حرب ثقافية وحضارية تستحق المتابعة فعلاً، لكن الأفضل عدم التدخل أو الدخول في أتونها لأن غير المعنيين بها لا يمتلكون أدوات الحوار والسجال فيها، والأجدر الاكتفاء بمتابعة تقدم سير حجج كلا الطرفين ومحاولة تحليل المشهد وفك مصادره الفكرية وقراءة تداعياته المستقبلية.
أحد معارك تلك الحرب شخصية الدكتور إسلام البحيري الذي يشن هجوماً ضارياً ضد التيارات السلفية ويقود دعوة صاخبة للتمرد على فرضية نقاء التراث الإسلامي من الشوائب، وكان آخر تصريحاته التي جلبت له المشكلات اللامنتهية رفضه لصحة كل أحاديث كتاب البخاري، وانقلابه على القول المأثور إن أصح كتاب بعد كتاب الله هو صحيح البخاري، وقد أدى هذا الرأي مجموعاً إليه انتقاداته الشديدة للتيار السلفي وآراء رموزه وفتاواهم، إلى حدوث رد فعل شديد من السلفيين في مصر والوطن العربي والمتبنين لمنهجهم وصدرت مطالبات بهدر دم البحيري وجلده واستتابته.
وما زاد من المعركة استعاراً هو دخول مؤسسة الأزهر على الخط ووقوفها ضد آراء إسلام البحيري وضد توجهاتها وقيام القناة الفضائية التي تبث برنامج إسلام البحيري بإيقاف البرنامج تأثراً بالضغوط الشديدة، كما قام الأزهر بإرسال قائمة بأسماء أساتذة الشريعة المسموح لهم إجراء لقاءات إعلامية تخلو من أسماء الأساتذة الذين عرفوا في الإعلام بخلافهم الشديد مع التيارات السلفية وتفنيدهم لمقولاتها، وأدى هذا السلوك إلى وقوف رموز السلفية والأحزاب السلفية إلى جانب الأزهر وتعهدهم بالدفاع عنه وعرضهم إخراج مظاهرات حاشدة للانتصار للأزهر ضد هرطقات إسلام البحيري وأمثاله!!
المعركة الثانية هي دعوة أحد الإعلاميين إلى إقامة مليونية في ميدان التحرير لخلع الحجاب، وحققت الدعوة إنجازاً إعلامياً كبيراً على شبكات التواصل الاجتماعي ما بين مؤيد ومعارض، تلك الدعوة سبقتها عدة تصريحات لشخصيات ثقافية واجتماعية بأن الحجاب ليس فرضاً وأن نصاً في القرآن أو السنة النبوية لم يجزم ويحسم الإلزام بالحجاب تكليفاً شرعياً تؤجر عليه المرأة المسلمة أو تؤثم، كما سبقها إنتاج إحدى القنوات الفضائية لبرنامج استعراضي مصري باهظ التكاليف مادته مسابقة عالمية للرقص الشرقي.
وتلخصت أرضية السجال في تلك الموضوعات حول قضية «الهوية»؛ فالبعض يرى أن محاربة الحجاب هي شكل من أشكال محاربة الإسلام الذي يمثل عمق الهوية المصري، وأنها دعوات تحمل في باطنها نشر الرذيلة، والبعض الآخر يرى أن تفشي ظاهرة الحجاب والنقاب ومحاربة الفنون بمختلف أشكالها هو أحد تأثيرات التيارات الإسلامية التي تريد التأثير على «الهوية الحضارية» لمصر وصبغها بالهوية المتشددة، وأن الحجاب هو رمز فكري آخر يقف إلى جانب اللحية الطويلة والثوب الأفغاني، وتم الربط بين قضية الحجاب والحرب على الإرهاب من كلا الطرفين.
فمحاربة الحجاب كفريضة إسلامية تفضح جوهر دعوات الحرب على الإرهاب التي هي حرب معلنة على الإسلام عن الفريق الأول، ومحاربة الحجاب والنقاب هو تصد لأحد أشكال الإرهاب وهو الإرهاب الفكري الذي يولد الإرهاب المسلح.
صعوبة المعركة ودقتها تستدعي الحذر منها والوقوف في مسافة بعيدة عن نيرانها، فأدواتها صعبة وشائكة، وكلا الطرفين يستند إلى النص الشرعي، وأغلبنا لا يعرف كيف يفند النص الشرعي ويمحصه ويحققه. وكلا الطرفين له غاياته السياسية والثقافية. ولكن دلالة المعركة الكبرى هي أن التراث قد أضحى في مرمى النيران علانية، وأن الأصوات الخجولة التي كانت تدعو إلى إعادة دراسة التراث ونقده والتخلص من قيود عبادته والخنوع له قد ولى زمانها وخرج من الفضائيات إلى العلن من يحطم المقولات الثابتة ويضعها في دائرة الشك. كما تعكس الحرب صلابة المؤسسات الدينية والثقافية المتمسكة بالاهتداء والاقتداء بالتراث وتعكس امتلاكها للنفوذ والمال والقوة والشبكات الإعلامية التي تستطيع أن تجابه بها الإمبراطوريات الإعلامية للتيارات الليبرالية والحداثية. والحروب الثقافية ليست أقل خطراً من الحروب العسكرية، وهي صورة موازية لحالة الاقتتال على الأرض العربية. وكل ما سبق مؤشر أن الأمة العربية في مخاض عسير لميلاد جديد ولكن أحداً لا يستطيع أن يضمن صحة المولود وسلامته وقوته، فلربما يولد الطفل الأول خديجاً أو مشوهاً. فنحتاج لميلاد ثان أو ثالث ورابع.