هناك من يزعم أن العرب ليسوا أرباب النفس الطويل في النزاعات السياسية، وأنهم يديرون مناوراتهم السياسية بعاطفة وانفعال وأحياناً مزاجية. وأن تحولاتهم السياسية أشبه بالانكسارات ولا تعكس مرونة في المواقف أو براغماتية تفرضها طبيعة السياسة بالضرورة. وفي أغلب الصراعات السياسية لا يستطيعون حسم النهايات لصالحهم لأنهم لا يجيدون استخدام قوتهم الناعمة.
مصطلح القوة الناعمة يشير في الغالب إلى المفاوضات السياسية الناجحة والقدرة على المناورة من حيث استخدام الضغوطات والإغراءات السياسية والاقتصادية والتحالفية من أجل الضغط على الطرف الآخر، أو تقديم التنازلات حين يكون التنازل وسيلة للصعود لمراتب أعلى من المراتب الآنية. ونستطيع تلمس استخدام القوة الناعمة في بعض المناورات السياسية في المشهد العربي الحالي من خلال عدة أطراف، ليس فيها، بالطبع أحد من العرب.
فعلى سبيل المثال انشغل كثير من المحللين بتفسير الصمت الروسي عن الفيتو في ما يخص الطلب الخليجي بوضع اليمن تحت البند السابع الذي يجير استخدام القوة، أكثر التفسيرات بحثت عن المصلحة الروسية في الامتناع عن التصويت بأنها مناورة مع دول التحالف العربي التي تقود العاصفة، حيث إن الحرب قد بدأت في اليمن ودخلت أسبوعها الثالث وأن دول التحالف قد فرضت الحصار البري والبحري والجوي على اليمن، وأن «فيتو» ثالثاً لن يؤثر في مواقف تلك الدول، ولكن الحل هو استرضاؤها للحصول على مكاسب مستقبلية أكبر وخصوصاً في الملف السوري. وكان الاتصال الإيجابي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتن والعاهل السعودي الملك سلمان أول الغيث.
مؤشر آخر ومتواصل لاستخدام روسيا القوة الناعمة ما رشح عنه من أخبار حول اتفاق خط الأنابيب الروسي التركي، حيث استعاضت روسيا عن الخط الممتد جنوباً عند البحر الأسود بالخط التركي الذي يصل مباشرة إلى اليونان أكبر دولة أوروبية مستهلكة للغاز الروسي. وهنا تبرز مرة أخرى البراغماتية الأردوغانية في كسب المصالح الخاصة للدولة التركية. فبعد الخطابات النارية حول سوريا وإثارة القضية الطائفية فيها وإرسال رسائل سلبية تجاه روسيا الداعم الكبير لنظام بشار الأسد يفضل أردوغان مكاسب تركيا الاقتصادية على الشعارات المجانية التي باعها للعرب. وبهذا الاتفاق تستطيع روسيا الضغط على تركيا في المسألة السورية، وكان أول الغيث تصريحاً تركياً خجولاً تعبر فيه عن حاجتها إلى تعاون المجتمع الدولي للمشاركة في حل لتدفق عناصر تنظيم داعش إلى سوريا عبر الأراضي التركية!!.
وفي السياق نفسه وبالانتقال إلى القوة الناعمة التركية التي لن يفوتنا أن نذكر مرات وكرات بالعنترية الأردوغانية تجاه الدور الإيراني في اليمن ثم الهرولة السريعة للاستثمار الاقتصادي الإيراني بعد توقيع اتفاق الإطار المبدئي حول الملف النووي، وما تضمنته رحلة أردوغان من زيارة عاطفية لقبر الخميني.
كما تجدر الإشارة إلى الاتهامات العراقية لتركيا في دعمها لتنظيم داعش العراق عن طريق ما سمي حينها بثورة الأنبار رمزاً لثورة السنة في العراق التي انخرط فيها حزب البعث العراقي بقيادة عزت الدوري وهيئة علماء المسلمين في العراق بقيادة حارث الضاري والتي انتهت بغلبة داعش على كل المكونات وإقامته مجازر مهولة في سكان الأنبار والموصل وتكريت السنة. وقد تم تداول معلومات غير موثوق منها أن عملية «اصطياد» عزت الدوري تمت بالتبليغ عن موقعه من قبل تركيا كعربون تصالح مع النظام العراقي والتفاهم على المرحلة القادمة. وهذه الأخبار إن صحت فهي هدية خاصة لحزب البعث العربي العراقي الذي وقع في الفخ التركي ثم تحول بدوره إلى هدية تركية للعراق.
والتفاهمات السابقة تشير إلى خارطة تحالفات جديدة في المنطقة لم ينخرط العرب فيها، وهي تقوم أحياناً على حساب العرب. وكل الأطراف تناور وتتنازل وتتحاور وتتشاجر دون أن تخسر دولاراً واحداً أو قطرة دم واحدة.