من الصعب تقبل فكرة أن الخطابات التي يلقيها أشخاص مثل نصرالله والحوثي وغيرهما من قياديي الأحزاب والجماعات السياسية تخلو من توجيه معين عبر كلمات لا يفهم المقصود منها سوى الأشخاص ذوي العلاقة، فهذه طريقة يلجأ إليها السياسيون لتحقيق أمور معينة مثل الإذن بتنفيذ عملية معينة في الفترة التي يلقى فيها الخطاب أو بعد ذلك بوقت محدد، أو ليوصلوا رسائل معينة إلى أفراد أو جهات معينة. ولعل القصة الأشهر في هذا الخصوص قصة تكرار جمال عبدالناصر لكلمة «ديلسبس» سبعة عشر مرة في خطابه الذي ألقاه يوم 26 يوليو 1956 للبدء بتنفيذ عملية تأميم قناة السويس، والتي تمت قبل أن ينتهي من الخطاب وليعلن خلاله بأنه «في هذه اللحظة يقوم إخوة لكم من أبناء مصر ليديروا الشركة العالمية لقناة السويس».
شخصياً أشك أن الخطاب الأخير لعبدالملك الحوثي لم يتضمن أمراً من هذا القبيل، فلا أستبعد أبداً أنه وجه رسائل معينة وتوجيهات لأفراد أو جهات معينة في تلك الساعة التي ملأها بالحديث المكرر ليتم تنفيذها في وقت لاحق، والأمر نفسه فيما يخص الخطاب الأخير لنصرالله وآخرين تناولوا المشكلة اليمنية. فما أعتقده هو أن تلك الخطابات لم تخل من كلمات محددة يفهمها المتلقي العادي بمعناها الظاهر بينما يفهمها ذوو العلاقة فهماً آخر، فهي توجيهات وقرارات وإعلان عن مواقف وإذن ببدء هجمات أو التوقف عن ممارسات معينة.
هذه الطريقة ليست مبتكرة وليست حصراً على أحد أو مجموعة، فالبشر يلجؤون إلى تغليف الكلام بغية أن يظل الفهم حكراً على المرسل والمستقبل فقط. في هذا الصدد يمكن التذكير بما فعله أنور السادات عندما احتاط قبل بدء حرب أكتوبر، فاعتمد لغة النوبيين للتوجيه لأنه يعلم أن الإسرائيليين يسمعون كل شيء، فأتاهم بتلك اللغة التي لم يفهموا منها شيئاً بينما فهمها المعنيون من المصريين فسارت الأمور كما يشتهي.
شيء من هذا القبيل حصل في البحرين أيضاً، حيث اختار البعض في مرحلة معينة وضع حرف معين في أول الكلمة وحرف آخر في آخرها كي يغلفوها فلا يفهمها إلا المعنيون بها لأنها تبدو لمن لا يعرفها أو تدرب عليها ألغازاً ولغة أجنبية، وقيل إنهم تدربوا عليها بحيث يصعب على المتلقي غير ذي العلاقة فك طلاسمها، بينما تمكنوا هم من التحدث بها بسرعة فائقة تحرم غير المعنيين بها فهمها (إن لم أكن مخطئاً فالحرفان كانا سين وصاد، الأول يوضع في أول الكلمة والثاني في آخرها، بينما يتكفل المتلقي بإزالة الحرفين سين وصاد من الكلمة بسرعة فائقة كي يتمكن من فهم معناها والمقصود).
اليوم وبسبب توفر وسائل التواصل الاجتماعي صار العاملون في الأحزاب والتيارات والحركات السياسية يوظفون التويتر والفيسبوك لهذا الغرض، وهنا لا أسبتعد أبداً قيام أسماء معينة محسوبة على «المعارضة» تقيم في الداخل أو الخارج بتضمين تغريداتهم توجيهات معينة لأشخاص معينين كي ينفذوا عمليات محددة في ساعات محددة وربما بطرق محددة. والطريقة نفسها تستخدمها التنظيمات الإرهابية على اختلافها، بل لا أستبعد أن تساهم الفضائيات الإيرانية وتلك التي تقتات عليها في مثل هذا الأمر فتوفر الفرصة لمن تريد توفيرها لهم كي يوصلوا رسائلهم عبر تلك اللغة السرية التي لا يمكن لغير المعنيين أن يفهموها كونها اتفاق بين طرفين.
بالتأكيد ليست الأجهزة الأمنية غافلة عن مثل هذا الأمر، فدورها أن تدرس كل أبعاد الكلمات المستخدمة في تلك الرسائل التي يتم توجيهها عبر الفضائيات أو الإذاعات المسموعة أو المواقع الإلكترونية أو مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن هذا التطبيق لا يقتصر على مجموعة دون أخرى ولكنه يشمل كل من يعتمد التخريب سبيلاً.