في 18 الماضي نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريراً مصوراً من العراق ورد فيه «أن الخميني يحلّ محل صدام حسين في قلب العاصمة العراقية»، وألا شيء يعبّر عن التحوّل الجذري الذي يشهده العراق في شكل واضح أكثر من صورتين للخميني وخامنئي رفعتا على جدار ساحة الفردوس حاجبتين تقريباً فندق فلسطين الذي كانت القوات الأمريكية قد حوّلته مقراً لها بعد إسقاط نظام الطاووس الفولاذي صدام حسين.
بعد أقل من شهر وتحديداً في 8 الماضي قال علي يونسي مستشار الرئيس حسن روحاني: «إن إيران أصبحت اليوم إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها حالياً بغداد وهي رمز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا»، في إشارة واضحة إلى إعادة الإمبراطورية الفارسية الساسانية قبل الإسلام التي احتلت العراق وجعلت المدائن عاصمة لها!
المبرر الوحيد والضروري للعودة إلى هذه الوقائع هو الضجة الكبيرة التي أحدثها القانون الذي قدمه مارك ثورنبيري عضو لجنة القوات المسلحة وأقرّه الكونغرس الأمريكي الأسبوع الماضي، والذي كان يدعو في نصه الأصلي إلى تسليح السنّة والأكراد في العراق بصفتهما دولتين، لكنه عدّل لينصّ على إمكان تزويد قوات البشمركة والسنّة بالسلاح بشكل مباشر في حال لم تفِ الحكومة العراقية بالتزاماتها بموجب هذا القانون.
ويفرض هذا القانون شروطاً على حكومة حيدر العبادي لقاء الحصول على المساعدات العسكرية التي تواصل طلبها من واشنطن، أن تمنح المكوّنات غير الشيعية دوراً في قيادة البلاد في غضون ثلاثة أشهر، وأن تنهي دعمها للميليشيات الشيعية وإلاّ سيتم تجميد 75 في المائة من المساعدات لبغداد وإرسال أكثر من 60 في المائة منها مباشرة إلى الأكراد والسنّة!
طبعاً لقد أثار هذا القانون كل شياطين المخاوف المزمنة من تقسيم العراق، الذي يمكن أن يشكّل بداية دومينو تقسيمي يمتد إلى دول أخرى في المنطقة، وفي مقدمها سوريا التي توحي التطورات الميدانية الأخيرة فيها، خصوصاً بعد تراجع النظام في اتجاه المناطق الساحلية أنها تقترب بدورها من إمكان التقسيم!
عملياً الحديث عن تقسيم العراق ليس جديداً، ففي عام 2000 عندما كانت كوندوليزا رايس في «المجلس القومي الأمريكي»، وقبل أن تصبح وزيرة خارجية في عهد جورج بوش الابن الذي احتلّ العراق، كتبت مقالاً مطولاً في «فورين بوليسي» دعت فيه صراحة إلى احتلال العراق، في سياقه إيحاءات تحضّ على تقسيمه، بما فهم فيما بعد أنها أرادت أن يكون العراق مدخلاً إلى الفوضى الخلاّقة التي يمكن أن تعيد رسم خرائط المنطقة كلها!
ومنذ كان جو بايدن رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس وحتى بعدما أصبح نائباً للرئيس باراك أوباما كان دائماً يدعو علناً إلى تقسيم العراق، وقد ازدادت هذه الدعوات مع الانقسام الكبير الذي أحدثته السياسات الكيدية والاضطهاد المتمادي الذي مارسه نوري المالكي ضد المكوّنين السنّي والكردي في البلاد، وكل ذلك قبل ظهور «داعش» واحتلاله مناطق واسعة من العراق، بعد فرار جيش الأشباح الذي أنشأه المالكي لأسباب تتصل بالسرقة والفساد وغيرهما طبعاً!
لم تبدأ أمريكا الضربات ضد «داعش» إلا عندما قبلت إيران على مضض إزاحة المالكي حيث جاء حيدر العبادي الذي يصارع لوضع أسس سياسة تعيد بناء الوحدة الوطنية، لكن طغيان الحضور الإيراني على الصورة العراقية يحول دون ذلك حتى الآن، وليس خافياً أنه عندما ذهب العبادي إلى واشنطن طالباً إسناداً جوياً لتحرير تكريت، اشترط أوباما عليه عدم مشاركة «الحشد الشعبي» الذي تقوده إيران، لمنع الممارسات الانتقامية العشوائية المذهبية التي يقوم بها في المناطق السنية!
لا يمكن تبرئة أمريكا من مشاريع التقسيم التي تستهدف العراق وغيره، ولكن ما فعله المالكي في الماضي وما يفعله الإيرانيون اليوم الذين يقودون «الحشد الشعبي» ويمنعون الحكومة من تسليح العشائر السنيّة لمحاربة «داعش» في الأنبار وغيرها يؤجج المشاعر الانقسامية، ولعل أكبر دليل على عمق الشرخ الذي بات يهدد وحدة العراق، ما جرى نهاية الأسبوع الماضي في البرلمان العراقي.
فقد عقد البرلمان العراقي جلسة للتصويت على قرار يرفض قرار الكونغرس تسليح السنّة والأكراد، لكن تحالف القوى السنّية وتحالف النواب الأكراد انسحبا من الجلسة، وقال بيان أصدره النواب السنّة: «في الوقت الذي نجدد تمسكنا المطلق بالحفاظ على سيادة العراق ووحدته ورفض أي تدخل في شؤونه الداخلية، فإننا نرحب بقرار الكونغرس الأمريكي القاضي بتسليح المحافظات الخاضعة لتنظيم داعش الإرهابي لتحريرها من دنس تلك العصابات وعودة أهلها المهجّرين».
النائب الكردي أريز عبد الله قال بدوره إن قرار مجلس النواب العراقي صدر خارج التوافق الوطني ولا يمثل الشارع العراقي كله، وإن الكتلة الكردية سعت لحصول توافق لكن إصرار «التحالف الوطني الشيعي» أدى إلى انقسام المجلس إلى قسمين، وقد جاء ذلك في حين كان حيدر العبادي يصف قانون الكونغرس بأنه قانون للدويلات العراقية سيغذي الاستقطابات في المنطقة ويضعف جهود الحرب ضد «داعش».
لكن تصريح رئيس مجلس النواب سليم الجبوري جاء غامزاً من كلام العبادي عندما قال: «إن أبناء المحافظات التي تحتلها (داعش) السنّية، لديهم الرغبة الشديدة بتحرير مناطقهم وطرد الإرهابيين منها إذا ما وجدوا الدعم والتسليح، لأنهم الأقدر على مسك الأرض بعد عملية التحرير»، ولعل الإضاءة الأفضل على المشكلة العراقية تأتي عبر ما يكرره الجبوري دائماً:
إن التحدي الداخلي هو أبرز مشكلات العراق وهو يتمثّل بفقدان الثقة المتبادلة بين المكونات العراقية وبعدم احترام الاتفاقات وبناء مؤسسات الدولة، كما إنه يتمثّل بأن هناك رايات تُرفع بعناوين طائفية وعلى مستوى دول، كما إن بعض هذه الدول (والمقصود إيران) تنتدب نفسها للمحافظة على العنوان الطائفي أو الدفاع.. لكن من مصلحة العراق أن يكون هناك توازن إقليمي قائم على أساس المصالح المشتركة بين تلك الأطراف.
ليس المهم ما تخططه أمريكا للعراق أو لغيره المهم ما يفعله العراقيون لمنع مرور المخططات التقسيمية عبر ترسيخ التفاهم والوحدة الوطنية وليس هناك شيء من هذا في العراق، وعندما يقوم البعض من أعضاء الحشد الشعبي على حرق البيوت والتنكيل بالأحياء السنّية كما حصل يوم الأربعاء في بلدة النخيب في الأنبار، معتبرين أن كل السنّة من «الدواعش»، فليس مستغرباً أن يصبح التقسيم مطلباً، تماماً كما يقول مسعود بارزاني إن جوهر محادثاته في واشنطن قيام الدولة الكردية.

* عن «الشرق الأوسط» اللندنية