أجزم بأن كثيراً منكم مرت عليه في يوم من الأيام، سواء عبر قراءاته في المطبوعات أو تنقله في الشبكة العنكبوتية أو ما يستقبله من رسائل ومعلومات عبر أجهزة الاتصال الذكية، مرت عليه «قصص نجاح»، كثير منها يتحدث عن عملية تنام وتطور لفكرة ما بدأت صغيرة وأصبحت شيئاً مميزاً، وعن مشروع بدأ برأس مال صغير وتطور ليصبح إمبراطورية عملاقة بليونية القيمة. وللتنويه حتى في مجتمعنا هناك بعض القصص المماثلة وأغلبها يتركز في القطاع الخاص.
تمر علينا مثل هذه القصص، وكثير منا أول تعليق يصدر عنه بأن «الحظ» كان له دور كبير، ورغم صحة هذا القول نسبياً في بعض الحالات، لكن القاعدة تقول بأن الحظ لا يدوم دهراً، وعليه قصص النجاح التي يكتب لها الديمومة لا تتم إلا لأولئك البشر الذين وصلوا لمستوى إدراك وسقف مهارات وقدرات ليحافظوا على النجاح.
البعض يظن أن وفرة المال والميزانيات الضخمة هي أساس النجاح لأي دولة أو مؤسسة وحتى على الصعيد الاجتماعي كالبيت والأسرة، وأنه كلما توافرت وتزايدت بنِسَب أعلى كلما كان الطريق للقمة والألق سهلاً. لكنها فكرة خاطئة تماماً، ولنثبت ذلك.
حينما تمنح وزارة ما، شركة ما، مجموعة بشر، ميزانية مالية كبيرة، وتمويلاً ذا أرقام فلكية، وتريد منهم تحقيق النجاح ولا شيء آخر، لكنك في المقابل لا تتأكد من وجود عقليات وطاقات بشرية في هذه القطاعات لديها من الكفاءة والقدرة لإدارة الأمور بذكاء ومسؤولية في حدود الموازنة المحددة وتنجح -وهو الأهم- في تحقيق الأهداف المرصودة، بل وتزيد عليه في الإبداع والتميز وبناء السمعة الطيبة، ولربما تحقق أرباحاً مؤثرة لو كانت مطالبة بالربح، حينما لا تتأكد من وجود مثل هؤلاء، ثق بأن الأموال والموازنات وضعها على كف عفريت.
زبدة ما نقول هنا، بأن المال لا يصنع النجاح والمجد ويساعد على التقدم والتطور والرقي لوحده أو بسبب وفرته وعدم توقف تدفقه، بل المال هو أساس رئيس في أي منظومة، هو «وسيلة لا غاية» كما يقال في الأدبيات، لكن المال يحتاج لبشر ذوي عقليات متفوقة وأذهان نظيفة وقدرات مميزة ليصنعوا منه شيئاً يوسم بالنجاح، لا بأن يبعثروا الأموال أو يصرفوها دون وعي ويريدون بعدها إما دعماً أو مساندة مالية إضافية.
هناك نوعان من البشر في شأن التعامل مع الأموال والموازنات، هناك من يصرف بلا حساب ويبعثر ويرى في المال غاية، فيقاتل من أجل زيادة غلة قطاعه، وهناك من يرى المال أداة لتحقيق أهدافه، يقدر ما يصرف بحسب الهدف، يفكر في تعزيز النجاحات ولا يفكر في زيادة رقم ميزانيته إلا أن كانت لديه مشاريع قادمة ملحة وتستحق، نتاجها مؤثر بشكل إيجابي على الوطن والمواطن، وليس نتاجاً في الإعلام ولأجل «الشو»، أو بهدف الجلوس لمدة أطول على الكرسي.
أهل التجارة الناجحة ومؤسسات القطاع الخاص ذات السمعة والعمل المزدهر يدركون ما نقوله هنا، المال مهم لديهم في إطار معادلة الربح والخسارة، لكن حتى تحقق المكسب والنجاح لابد من بشر من نوع ذكي وخاص ليدير هذه الأموال. نوع يحول التراب إلى ذهب، كما يقال.
الآن لنشخص الواقع بشكل سريع وبسيط، منعاً لإحراج أشخاص ليسوا من فئة أولئك الذين يحولون التراب إلى ذهب، لكنهم وجدوا في مواقع كان الأفضل لهم فيها لو امتلكوا القدرة على التعامل الصحيح مع الأموال واستغلالها الأمثل لصالح البلد وأهله.
الواقع يقول بأن لدينا أحد عشر تقريراً للرقابة المالية والإدارية تضم أرقاماً مهولة تحت تصنيف الأموال المهدرة أو التي أسيء التصرف فيها. الواقع يقول بأن لدينا عجزاً إكتوارياً مخيفاً، مؤشراته بدأت منذ أكثر من عقد، لكنه ترك ليزيد ويكبر ويتحول لشبح مرعب. الواقع يقول بأن لدينا ديناً عاماً سيتجاوز (مع طلب رفع السقف الأخير) حاجز المليارات السبعة من الدنانير، وهذا العجز كان قبل ثمان سنوات أقل من حاجز المليار!
هذا ما يقوله الواقع لدينا، وبربطه ومراحل تطوره الزمني بما قلناه أعلاه عن المال ومن ينجح في إدارته ومن يفشل، يمكن لنا وبسهولة أن نعرف نسبة النجاح لدينا في تطبيق المعادلة ونسبة التوفيق أو الإخفاق في اختيار الطاقات البشرية المناسبة.
النجاح ليس بالمال، النجاح بالبحث عن الأشخاص الذين يطوعون المال ليحقق أضعافه المضاعفة، الذين يستخدمونه لتطوير كل شيء، الذين يرونه «تراباً» وهم أهل لتحويله إلى «ذهب».