بين القصرين، السكرية وباب الشوق، روايات عملاقة للأديب والروائي نجيب محفوظ، والذي استطاع بكل حنكة ودهاء أن يرسخ في أذهاننا شخصية، أشك بأنها كانت وهمية أو فقط محط أساطير أولية، وهي "سي السيد" التي أبدع في رسم أدق تفاصيلها ومدى تأثيرها وتأثر الناس المحيطين بها سواء داخل أسوار البيت أو خارجه، والسؤال الذي لطالما به فكرنا يوماً؛ هل انتهت ثقافة سي السيد في هذا الزمان؟
لا أخفي عليكم مدى سعادتي عندما أعلم بأن المقال الذي كتبته وتم نشره قد أثار شيئاً من الجدل بين بعض القراء، أكان هذا الكلام محطة دعم أو استنفار، فمقالي الأسبوع الماضي "مهنة مهددة بالانقراض" قد أثار حفيظة مجموعة من الأشخاص الذين قرؤوا الموضوع، حيث كان يتناول صراحة بدء افتقارنا إلى حد افتقادنا إلى مهنة لا تقدر بثمن، والتي لا يعلم معنى غلاها إلا من كان قريباً منها أو عايشها وهي "ربة البيت أو المنزل".
فربة البيت لا يقتصر دورها على التنظيف والترتيب، كما يعتقد البعض من التعبير، فربة البيت تعني "سيدة البيت" أي الآمرة الناهية لكل صغيرة وكبيرة في أرجاء مملكتها الصغيرة، ومن مميزاتها عطاء بلا حدود وتضحية من دون انتظار مردود واستيعابها وتقديرها للكل سواء كان موجوداً أو خارج السرب يحلق ويدور.
فكان لأحدى الصديقات سؤال جوهري في المعنى والمضمون؛ لماذا بطلة المقال محملة نفسها أكثر من المطلوب، فالبيت والأبناء مسؤولية لابد أن يتقاسمها معها زوجها الميمون؟ كلام صديقتي أخذني في تحليلي للسؤال؛ "هل انتهت ثقافة سي السيد"؟.
اسمحوا لي أن نحلل سوياً "أمينة"، كما صورها لنا الكاتب نجيب محفوظ، كانت مهمتها السهر على راحة زوجها وأبنائها، و"نعم" و"حاضر" و"أمرك"؛ أجوبتها بمقدار وصوتها لم يسمعه جار، إضافة إلى الخبز والعجن وترتيب الدار والذهاب إلى مسجد أو مقام بعد الحصول على الإذن الذي تأخذه بقنطار، والقصة ليست عليكم خفية وتعرفون ما هي البقية.
أما الآن، فقد أصبح لدينا "أمينة الخارقة"؛ فهي تحررت من إذن الخروج لتجد نفسها أسيرة سيارتها التي تقودها لتأمين جميع الالتزامات الداخلية والخارجية، ولمطالب أبنائها فورية، ولدروسهم والتحدث معهم باللغات الأجنبية دائماً لغوية، ولا تنسى أناقتها الكوكبية، ولابد مع كل هذا أن تكون محافظة على ملامحها الأنثوية وتلاحق الموضة العصرية، خاصة في الأعراس والمناسبات الاجتماعية، ومتحدثة ولبقة ومثقفة في جميع النواحي سواء الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية وحتى الرياضية كي تبقى في عيني "سي السيد" دائماً وردة ندية.
و"سي السيد" القرن الـ21 لايزال بعيداً عن أخبار الدار؛ فوقته مقسم بين عمل الصباح وفي المساء مع الربع والأصحاب إما في الديوانية أو لمتابعة مباريات رياضية، أو يقلب بين المحطات الإخبارية ليكون أول من يدون معلومة عبر برامج التواصل الاجتماعية، وكي لا أظلم نفسي وأظلم من كان لبيته دائماً العين الساهرة والكلمة الدافئة ويتفقدهم كما يتفقد الوالي الرعية، ويبحث عن سبب لرسم ابتسامة على وجوههم لؤلؤية، فلاتزال توجد مثل هذه العينة الماسية من الرجال الأبية، ولكن كلي أمل أن تعمم هذه الأمثال النموذجية لكي نضمن حياة مشتركة سوية بين "أمينة" القلب الحنون و"سي السيد" العقل الموزون.