بشكله البالي والرث يمشي متبختراً، لا يهمه كلام فلان أو علان، وبكل جدارة يأخذ حيز الطريق من دون استئذان، فهو لا يهتم لعابر أو راكب دراجة كان. على إشارات السير الضوئية من اليسير أن تجده يزاحمك لدرجة أن يقطع الطريق أمامك وأمام بقية الحافلات، فهدفه الوحيد أن يدرك المكان في الوقت المحدد غير آبه بالمشكلات التي من الممكن أن يتعرض إليها من كان لديه الحظ الوفير في أن يسير على جانبه أو خلفه، لتجده يتوقف في أضيق الممرات لينزل راكباً أو يصعد معه من كان قاصداً نفس العنوان، لتكتشف أن الدقائق ستمر وكأنها ساعات من العذاب، فيتوقف متى يريد وأينما يريد من دون سؤال، ولا تتأمل خيراً في أن يحن عليك بنظرة عطف ويعطيك مساحة من الطريق كي تمر بأمان وسلام ويهدأ غضبك المشتعل، حيث تشعر في كثير من الأحيان أن دمك المغلي يكاد أن ينفر من الشريان.
فلا أعتقد من بعد هذا الإسهاب بأنه لايزال الإعلان عن اسم صاحب كل هذه الأزمات المسارية سراً أو لغزاً بحاجة إلى الكثير من التحليل والتفكير، لنصل إلى الجواب الصواب وهو "الباص" أو حافلة النقل العام، والتي عهدنا أن نلتقي بها في شوارع العاصمة في كل وقت ومكان.
أما الآن فقد تبدل الحال وأصبح أفضل بكثير مما كان، فمنذ قرابة شهر ونصف الشهر رأيت في الشوارع أمراً يثير الدهشة والفرحة والامتنان؛ الباصات الرثة التي لا تشتهي أن ترمقها بنظرة ولو من بعيد تبدلت إلى باصات حمراء، أنيقة اللون والهندام، ولوحة إلكترونية مدون فيها مسار الاتجاه كي لا يتوه قاصد المكان ويكثر الأسئلة على قائد المركبة فيأخذ الاثنان الوقت بين سؤال وجواب.
لا أخفي عليكم سراً، حينها شعرت للحظة أنني أقود سيارتي في أحد الشوارع الأمريكية أو الأوروبية وبغبطة تملأ الوجدان، وهذا الأمر الطيب كان لابد أن يحصل منذ زمن، فهنيئاً لنا بهذا الاستحسان؛ فالأحمر أجمل يا ناس...
ولكن للأسف لم أستغرق من الوقت الكثير حتى أصبت بخيبة أمل ليس لها بديل، وتبدلت أحلامي النهارية الوردية من أسلوب قيادة راق خال من كثرة المشاحنات إلى حقيقة وواقع مر وكوابيس في وضح النهار على مرأى الغريب والقريب، وسرعان ما جاء في البال مثل قالوه منذ زمن وبلاشك أنه لم يذكر من فراغ أو مجرد صف كلام "الطبع غلب التطبع" أليس كذلك يا أصحاب السيارات والمشاة؟
فصحيح بأنه تم تبديل الباصات إلى أخرى بأحدث الامتيازات، مشرقة بلونها الأحمر الخلاب من الخارج، ومقاعد مريحة ومكيفات هواء من الداخل، إلا أن السائق، وهو الأهم، لايزال كما كان، يمشي بعبثية غير آبه بمن حوله كان، ويدخل عليك عرضاً من اليمين إلى اليسار من دون إدراك لكل ما يمكن أن ينجم عنه من أضرار سواء عليك أو على من حوله من المركبات.
لذا فنصيحتي لمن كان وراء هذا التغيير النموذجي الفتان، أن يقوم بإعداد المحاضرات عن أهمية مدى الالتزام بقوانين القيادة، كي تتم حمايتنا من متهور كل هدفه أن يصل في الوقت المحدد بالذات، رامياً وراء ظهره أن القيادة فن وأدب واتزان وقبل كل شيء محافظة على الأرواح.