أكتب هذه السطور وهي قناعة شخصية ترسخت لدينا من خلال متابعة مستمرة لأداء الدولة المالي خلال السنوات الماضية، والتي على إثرها نقول بأن عملية إعادة توجيه الدعم التي بدأت باللحوم، هدفها الرئيس والحقيقي ليس إنصاف المواطن وحمايته بقدر ما هدفها حل مشكلة أكبر تتمثل بالعجز المالي للدولة وارتفاع سقف الدين العام وبلوغه قرابة الميارات السبعة، وقد يتجاوز هذا السقف إن مرر النواب طلب وزارة المالية بقبول الاعتماد الإضافي.أتفق هنا مع جملة قالها النائب نبيل البلوشي قبل 16 يوماً بالضبط، حين قال بأن «عجز الموازنة مشكلة مفتعلة بسبب سوء إدارة المال العام»، وهنا يمكن ربط الأمور كلها، إذ إعادة توجيه الدعم ستوفر ملايين من الدنانير، وبعض المسؤولين في الدولة يقولها بصراحة بأنها ستخفف على كاهل ميزانية الدولة، قبل أن يورد الجملة الأخرى المرتبطة بالمواطن.سبعة مليارات دينار قيمة الدين العام، أليس هذا الرقم يدل على أننا نعاني من سوء إدارة للمال العام؟! أحد عشر تقريراً للرقابة المالية والإدارية تضمنت مخالفات وهدراً مالياً بالملايين، أليس هذا دليلاً على سوء إدارة للمال العام؟! تسيير أمور الدولة لا تتم إلا عبر الاقتراض والذي تصفه المالية بأنه «ملزم»، أليس ذلك تأكيداً على سوء إدارة المال العام؟!نترككم لتجيبوا، ولنعرج على قضية إعادة توجيه الدعم، وانتبهوا للأرقام هنا، ففي رد وزير المالية المنشور في الصحافة على سؤال نيابي بتاريخ 9 مايو الماضي، قال بأن مجموع الدعم الحكومي للسلع خلال السنوات الخمس الماضية بلغ قرابة ستة مليارات دينار بحريني (5.9مليارات دينار تحديداً). في حين بين نواب بأن الدعم الحكومي للحوم وحده مقدر سنوياً بواقع 43 مليون دينار، ولا تنسوا الكهرباء التي بلغ الدعم المالي لها 350 مليون دينار لسنة 2013، وقلنا الكهرباء لأن التصريحات الرسمية الأخيرة والردود على تساؤلات الصحافة أشارت لاحتمالية كبيرة بأن يطال إعادة توجيه الدعم سلع أخرى كالنفط ومشتقاته وخدمات مثل الكهرباء والماء.في رد وزير المالية قبل 16 يوماً كان هناك تأكيد على أن «آليات إعادة توجيه الدعم الحكومي ستتم بالتشاور مع السلطة التشريعية»، وبالأمس رأينا ردود فعل عديد من النواب وغضبهم من الموضوع، واعتبار بعضهم أن الأمر تم بإرادة منفردة دون الرجوع للنواب، الأمر الذي حد ببعضهم إلى التلويح بالاستقالة (وهو ما نشك فيه بقوة)، وفي مجمل الموضوع نضع ألف علامة تعجب هنا.لنفكر هنا بصوت عالٍ، التوصيف اللفظي لكلمة «إعادة توجيه الدعم»، يفهم منه أن المبالغ التي توجه للدعم هي موجودة أصلاً، لكنها لن تطال الأجانب، ما يعني أنها يجب أن تطال المواطنين، ركزوا على كلمة «إعادة توجيه» إذ لم تورد كلمة «تقليل أو خفض» الدعم، ما يعني منطقياً بأنه لو كان دعم اللحوم يبلغ 43 مليوناً سنوياً، ولنقل بأن نصف المستفيدين أجانب من نسبة السكان، ما يعني أن استفادتهم من الدعم تبلغ نصف الـ43 مليون، أي قرابة 21 مليوناً، يفهم من ذلك أن 21 مليوناً سيتم توفيرها، ولأننا أوردنا وصف «إعادة توجيه» فإن المنطق يقول بأن هذا المبلغ (21 مليوناً) يجب أن يعاد توجيهها للناس، أي بالبحريني الفصيح يجب أن يقسم المبلغ على الناس وفق حسبة علمية دقيقة.هذا ما نفهمه من كلمة «إعادة توجيه»، وما نفهمه من التصريحات التي تقول بأن المواطن لن يتضرر ولن يضيق عليه، وأن التوجه الجديد يخدمه. لكن أن تقترن هذه التصريحات بتصريحات أخرى تشير للتخفيف على ميزانية الدولة، هذا يعني بأن الفائض من المبالغ لن يوجه للمواطن، بل إلى خزينة الدولة ومن ثم تخفيف الدين العام عبر سد العجوزات، هذا إن افترضنا جدلاً بأن هذا سيحصل بمعزل عن توجيهها لميزانيات القطاعات الأخرى، وبعض منها قطاعات تستحق «الأوسكار» في تبديد الأموال وهدرها بشهادة تقارير ديوان الرقابة المالية.نعم نتفق مع من يقول بأن تزايد الدين العام، واستمرار معاناتنا من عجوزات الموازنة وترنح سعر برميل النفط، كلها أمور قد تضر المواطن بشكل بشع مع تعاقب الزمن، لكننا لا نتفق مع توجيه رسائل مزدوجة متضاربة في المضامين والمعنى، تقول للمواطن لن يطالك الضرر، لكن تطبيق الآلية سيوقع عليه الضرر ولو بشكل غير مباشر، أي ليس من قبل الدولة، بل من قبل التجار، إذ ها هي أولى تداعيات التوجه تمثلت بتصريحات للمشتغلين في تجارة اللحم تشير لنسبة زيادة تصل إلى 150% في سعر الكيلو.ما نريد قوله هنا، بأن المشروع ليس بجديد، إذ طوال السنوات الماضية تعمل الدولة على الموضوع وكذلك النواب المتعاقبين على المجلس، والدليل تصريحات بعض النواب المسبقة بخصوص الدعم وأنه يخدم الناس وأن المشروع مطلب نيابي سابق، هذا المشروع ليس بجديد، لكننا كمواطنين نستغرب، إذ بعد التفكير فيه والتخطيط له طوال هذه السنوات، أهذه هي النتيجة المثالية له؟! ديناران ونصف للطفل، وثلاثة لرب الأسرة إلى غيرها من حسبة تخلص لمبلغ زهيد جداً أثار استياء الناس؟!نتفق من ناحية المبدأ مع هدف المشروع، لكن أقلها يكون نصيب الفرد من هذا التوفير أو بالأصح «إعادة الدعم» مبلغاً له وزن وقيمة، مبلغ أقلها يرفع من راتب المواطن ودخل الأسرة بشكل مؤثرة (لنقل 300 أو 400 دينار ولا نبالغ هنا) بعدها ارفعوا الدعم، لكن بهذه الطريقة، ها هي البحرين مواطنين ونواباً يبدون استياءهم بشكل صريح وواضح، والخطير ألا يلتفت لرأيهم.بالتالي أعود للنقطة الأولى للموضوع والمتعلقة بسوء إدارة المال العام، ونقول بأنه من الظلم والإجحاف أن يدفع المواطن ثمن أداء فاشل لبعض المسؤولين في شأن التخطيط المالي للبحرين، أن يكونوا ضحية لسياسات استثمار غير صحيحة سببت العجز الاكتواري، أن يدفعوا من جيوبهم لسداد عجوزات سببها الهدر المالي الذي تم بموافقة مسؤولين عدة على رأس القطاعات المفترض أنها تعمل لخدمة الناس.ختاماً نكرر بأن كلمة «إعادة توجيه الدعم» تعني إعادة توجيه المبلغ كله للمواطنين، هكذا تفهم لغوياً وببساطة، إما إن كان لها تفسير عملي آخر، فهي تكون عملية «رفع الدعم» ومنح المواطن بضعة دنانير وكأنها تعويضات، سيدفعها وفوقها أضعاف مضاعفة ليشتري ما كان يشتريه سابقاً.
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90