أحدثت جوائز الرواية العربية المتعددة؛ مثل البوكر وكتارا، حراكاً في مياه الأدب الساكنة؛ فالروايات الفائزة والمرشحة على حد السواء تحظى بترويج ثقافي مهم يشجع على قراءتها وتثير فضول القراء على اختلاف مستوياتهم لمحاولة تلمس جمالياتها. وأنا شخصياً أحرص على قراءة تلك الروايات لمتابعة حركة الأدب والنقد العربيين وللوقوف على الاتجاهات الثقافية العربية ومحاولة فهمها وتفسيرها. وكانت آخر رواية عكفت على قراءتها رواية «الطلياني»، وهي الرواية الأولى للناقد التونسي المعروف شكري المبخوت.منذ المشهد الأول فاجأتني رواية الطلياني أنها تلجأ لإثارة الموقف مثل أفلام (الأكشن). فهي تبدأ بمشهد يجتمع فيه حشود المشيعين في المقبرة ويضرب بطل الرواية عبدالناصر (الطلياني) الإمام الذي يتولى عملية دفن والده في جو يتساءل فيه الجميع عن هذا السلوك المفزع ولا يجدون له جواباً سوى الحياة البوهيمية التي ينتهجها البطل؛ لتدخل الرواية بعد ذلك في استرجاعين للزمن الماضي تفسر فيهما أن الإمام كان يعتدي على عبدالناصر جنسياً وهو طفل صغير. والرواية في مجملها تعبر عن موقف ووجهات نظر متعددة لحقبة حكم كل من الزعيم التونسي السابق الحبيب بورقيبة وخلفه الذي انقلب عليه زين العابدين بن علي الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية. وحين أقول إن الرواية تعبر عن (موقف ووجهة نظر)؛ فأنا أشير إلى البنية الحوارية التي غلبت على الرواية. فالحدث الأكثر تكراراً والأوسع مساحة في الرواية هو حدث (الحوار) بين مختلف الشخصيات الذي يضج بالشرح الأديولوجي المسهب وبالتحليل السياسي المفصل. فقد بدت شخصيات الرواية شخصيات تتفرج على الأحداث وتعلق عليها طوال الوقت. ثم تشرع بعض الشخصيات بالتعبير عن ذاتها ولرؤيتها للحياة والمجتمع وتفسير موقفها من السلطات المتعددة في المجتمع المتمثلة في المؤسسات الحاكمة والأسرة والدين. هذا البناء جعل الشخصيات باهتة وإن عرضت نفسها في بدايات الرواية بأنها شخصيات ناشطة سياسياً وفكرياً ومتمردة على سلطات المجتمع، إلا أن تطور السرد كشف عن سلبيتها وعن خلفياتها الهشة التي يحمل تاريخ أغلبها تعرضها للابتزاز الاجتماعي والمهني وللاعتداء الجنسي تحديداً، وعن انتهائها إلى شخصيات منكسرة وتائهة في رسالة فنية سلبية غير مفهومة المقاصد.الرواية في مجملها رواية (جيدة)، ولكني قصدت من طرح ما سبق أن أبين أني لم أجد جواباً للسؤال الذي تثيره الرواية (من خارج نصها) وهو ما سبب فوزها بجائزة البوكر للرواية العربية؟، فالرواية، حسب قراءتي، لا تقدم جديداً في مسيرة الرواية العربية لا من حيث البناء أو اللغة أو الخيال، ولا من حيث جدة المضمون وقيم الرواية التي تتلاءم مع روايات عقد الثمانيات من القرن المنصرم أكثر من اتساقه مع سياق العقد الثاني من القرن الحالي!هذا الاتجاه هو الذي يعيد للواجهة الجدل الذي تثيره جائزة البوكر كل عام حول سبب استبعاد أسماء كبيرة وروايات مهمة من قائمة الترشيح وحول المعايير الغامضة في تحكيم الروايات حول أسس اختيار لجنة التحكيم. وتجدر الإشارة أن اختيار قوائم الروايات المشاركة في المسابقة يقوم على ترشيح دور النشر لثلاث روايات، وهو أمر يطرح تساؤلات حول مصداقية تقييم الناشرين نقدياً للأعمال الأدبية. كما إن الجدل الذي أثارته تشكيلة لجنة التحكيم لهذه الدورة (2015م) من الشاعر الفلسطيني مريد البرغوتي والإعلامية البحرينية بروين حبيب كان سببه أن الاثنين يمارسان الشعر وليس لهما علاقة بالعمل النقدي أو الإنتاج الروائي وهو الذي يضعف النتائج ويشكك في مصداقيتها.وخلاصة القول إن المحامد التي نجنيها من هذا الحراك الثقافي عبر المسابقات والمؤتمرات والمنتديات شيء وهاجس المصداقية التي بدأت تختطف من الواقع العربي شيء آخر. وحين تتسع حولنا دوائر الشك في هذا الواقع المعتم فإن الحياة الثقافية التي هي عادة السراج الذي يصحح في مسار وعينا قد يتحول إلى أداة من أدوات تضليلنا.