مثل غيري من الأسر البحرينية؛ ونتيجة عملي خارج البيت لوقت طويل، اضطررت إلى توظيف مربية تعينني على رعاية أبني أثناء غيابي عن البيت. مرت الأمور بهدوء وسلاسة -نوعاً ما-، فعلاقتي بالمربية كانت عادية تشوبها المشكلات التي تنشأ بين أي راع ورعيته، ولإيماني المطلق بأنني أختلف عنها في كثير من الأمور (كاللغة والدين والبيئة والنشأة) فكنت أتغاضى عن العديد من تصرفاتها من باب «التفهم وتقبل الآخر»، لكن المشكلة الحقيقية وقعت بعد أن قررت أن أوظف «مربية» جديدة لطفلي الثاني، لكي يحصل كل ابن من أبنائي على الرعاية والمراقبة التي تضمن لهم بيئة صحية وسليمة.
قبل الإقدام على خطوة التوظيف والاستقدام سألت صديقاتي من أصحاب الخبرة عن وجود أكثر من عامل يؤدي نفس الوظيفة في البيت من منطلق «عدو المرء من يعمل عمله»، فانقسمت صديقاتي في رأيهن إلى حزبين؛ حزب يؤيد أن آتي بمربية من جنسية مختلفة عن المربية الحالية تطبيقاً لنظرية «فرق تسد»، ولضمان عدم وجود «تحزب» أو «لوبي» يؤثر على حياتي الأسرية.
أما الحزب الثاني فنصحني باستقدام مربية من نفس جنسية المربية الحالية لتحقيق مزيد من الفهم المشترك ولتلاشي الاختلاف والخلاف بينهما.
ولإيماني بالتجانس ورغبة مني في تقليص فجوة الاختلاف بين المربيتين اللتين سيتعاونان في رعاية أبنائي؛ أخذت بالرأي الثاني، وهو أن تكون المربيتان من نفس الجنسية، ليس هذا وحسب بل إن تكونا من نفس المنطقة والديانة واللهجة لضمان تحقيق أكبر قدر من التمازج ولتقليل فرص الاختلاف.
وما هي إلا أيام قلائل حتى وصلت «فلوريدا»، أو كما اعتدنا أن نسميها «فلور»، كانت ذات بنية صغيرة وطول يميل إلى القصر، ووجه سمح نقشت خبرات الحياة فيه عدداً من التجاعيد غير المنفرة.
طلبت من المربية القديمة «ليزا» أن تأخذ «فلور» في جولة لتتعرف على أركان البيت ومن ثم تدلها على مكان إقامتها، وبدا الانسجام واضحاً وهما يتحدثان بلغتيهما، وسارت الأيام الأولى بشكل جيد جداً، إلى أن جاءت «ليزا» بوجه مكفهر بعد أيام قلائل من وجود شريكة جديدة لها في البيت معربة عن استيائها من تصرفات «فلور»!
فسألتها عن سبب استيائها من المربية الجديدة فقالت: «هي ترفض الانصياع لأوامري؟»، فقلت لها: «أية أوامر؟ ومن أوصاك بإعطاء أوامر للمربية الجديدة؟»، قالت: «لا أقصد أوامر بل أقصد أنها ترفض الانصياع إلى إرشاداتي وتعليماتي، أنا الأقدم في هذا البيت، وأنا أحسن التصرف في التربية نظراً لخبرتي الطويلة في هذا المجال، كما إنني أم لـ8 أبناء أصغرهم في عمر أبنائك، أما هي فلا، هي لم تحظ بفرصة كبيرة لاكتساب الخبرة في مجال التربية، وأصغر أبنائها في المرحلة الثانوية، وقد نست التربية وطريقة الاهتمام بالأطفال».
طلبت منها الهدوء، وقلت لها: «لم أطلب منك أبداً أن تعطي الإرشادات للمربية الجديدة، حتى وإن كنت بالفعل ذات خبرة أكثر منها في مجال التربية»، وحاولت أن أشرح لها ألا أحد يتقبل النصح والإرشاد، لاسيما وأنها ليست مسؤولة عنها، وأنها تتساوى معها في كل الأمور، وأنني الوحيدة التي تملك حق إعطاء الأوامر والتعليمات في البيت، وجلست أذكرها بأنه يجب عليها أن تتعاون مع المربية الجديدة من أجل إنجاز المهام المناطة إليهما دون إثارة أي نوع من المشاكل، موضحة لها بأنني جلبت المربية الجديدة لمساعدتها في إنجاز المهام، وقد اخترتها على أسس لتكونا قريبتين من بعضهما البعض، فقلت لها: «إنها مثل أختك، وهي تشبهك في كل شيء!»، ولم تتركني (ليزا) لأنهي حواري فقاطعتني قائلة: «لا هي لا تشبهني في شيء أبداً، أنا من السكان الأصليين للمدينة (الفلانية)، أما هي فلا؛ هي نازحة وجذورها ترجع إلى أحد القرى، حتى ديانتنا تختلف، هي من مذهب مختلف وأنا من مذهب مختلف»، وأكملت حديثها: «مدام، إما أن تبقى هي أو أنا في المنزل، فالمنزل لا يحتملنا سوياً».
تفاجأت من ردة فعل «ليزا»، هل تخيرني بينها وبين المربية الجديدة «فلور»؟ ومن أين نشأت هذه الاختلافات التي تتحدث عنها؟ ولماذا لم تخبرني عن الاختلافات هذه سابقاً، حينما أخذتها معي إلى مكتب الاستقدام لاختيار شريكتها في العمل؟ كل هذه الأسئلة وجهتها إليها فأجابت: «لقد أخطأت في التقيم، فالأوراق والسيرة الذاتية لم تشر إلى أصول المربية الجديدة وإلى طائفتها بوضوح؟ كل ما ذكر هو محل إقامتها ودينها».
قلت لها: «إذاً هي تشترك معك في محل الإقامة والدين؟»، قالت: «نعم؛ ولكن أنا من السكان الأصليين أما هي فغير أصلية، ومع أننا ندين بنفس الدين إلا أننا نختلف في الطائفة والمذهب، ناهيك عن أنني لا أستسيغ شخصيتها، فهي مختلفة عني».
ومنذ ذلك الحين وأنا أعيش في دوامة «الاختلاف» بينهما ومحاولة إقناعهما بتقبل الآخر.
.. للحديث بقية