تحاول الحكومة أن تلقي باللائمة على «الشعب ونوابه» في وصول العجز إلى هذه النسبة التي وصل إليها ووصول الدين العام إلى هذا الحجم، مبرئة نفسها من أي تقصير في سوء إدارة موارد الدولة أو عيب في سياستها المالية أدت إلى هذه النتيجة، وكأن الحكومة لم تكن سوى (كاشير) فقط بلا سياسة اقتصادية وبلا سياسة مالية، ولم تكن سوى أمين للصندوق، وهذا غير صحيح.
فللحكومات «سياسات اقتصادية» تتحكم في أوجه الصرف وتستثمر الموارد الطبيعية البشرية القائمة في الدولة هي التي تؤثر سلباً أو إيجاباً على وضعها المالي فتخلق فائضاً أو عجزاً مالياً أو على الأقل تساوي بين الصرف والمورد إلى جانب تحقيق نمو اقتصادي إن أمكن.
خيارات الناس المستنزفة للموارد لم تكن لولا أنهم أمام خيارات محدودة، فالضغط على سلم الرواتب في الميزانية كان بسبب خيارات الناس المحدودة في فرص العمل في القطاع الخاص لولا أن مخرجات التعليم لا تلائم احتياجات السوق وتلك سياسات حكومية، قلة فرص العمل في القطاع الخاص وانعدام مبادرات التشجيع لريادة الأعمال جعلت الوظيفة الحكومية مع المخصصات الاجتماعية (علاوات الغلاء والتأمينات) هي البديل كي يستطيع المواطن أن يعيش في ظل هذا التضخم.
تحريك القطاع الخاص أحد المهام الموكلة للحكومة ترسمها وتنفذها بسياستها الاقتصادية، فإن فشلت هذه «السياسة الاقتصادية» اضطر المواطن للتمسك بالوظيفة الحكومية، فزاد الضغط على موارد الدولة وأنهكت الميزانية.
تنوع مصادر الدخل مهمة اقتصادية أخرى توكل للحكومات تقلل من الاعتماد على مورد واحد وتمنح الدولة خيارات لتنويع مواردها تغنيها عن الوقوع تحت طائلة التهديد بنقص المورد الوحيد، فإن فشلت الحكومة في هذه «السياسة الاقتصادية» أصبح الارتهان للمورد الواحد مصدر تهديد وخاضعاً لتذبذب وضع هذا المورد في السوق، وحين ينخفض سعر المورد يزيد الضغط على بند الإيرادات فيضعف أمام بند المصروفات، أليست هذه مهام الحكومة ووظيفتها ومسؤوليتها؟
ثم إن التقديرات المبالغة لبنود الصرف سواء الصرف المتكرر أو مصروفات المشاريع «كسياسة مالية» كانت سبباً رئيساً للدفع باتجاه الاقتراض وتلك أيضاً سياسة حكومية مالية تتحملها الحكومة.
وبعد أن كبر القرض وتضخم الدين العام فشلت الحكومة في تقديم خطة واضحة لمعالم سياستها المستقبلية وخطتها للحد من تضخم هذا الدين حتى أصبحت الدولة تقترض لتسدد الاقتراض السابق وتقترض لتدفع فوائد للدين أكبر من قسط الدين نفسه، وهذه سياسة حكومية مالية لا رغبات شعبية.
والقول بأن العجز والاقتراض أمر عادي وأن جميع الدول المتقدمة والدول العظمى لديها دين ولديها عجز، فلنتذكر أن المواطن في تلك الدول ما حصل فيها العجز إلا بعد أن وفرت له الدولة بنية تحتية متكاملة ومقومات اقتصادية تجعل من عملية نموه الاقتصادي عملية مستدامة، مواطن تلك الدول يتمتع بمستوى دخل مريح يساعدها ويساعده على تسديد العجز، وهذا لا ينطبق على حالنا، الذي مازالت تنقصه البنية التحتية لمقومات التحريك الاقتصادي، فرجاء لا تقوموا بعلمية فوتوا شوب ولا تبتسروا الصورة حين تقارنون.
الحكومة محقة في تحميل السلطة التشريعية المسؤولية معها فهي من يقر برنامجها وهي من يقر ميزانيتها وهي من يبرئ ذمتها في الحساب الختامي ولا يجري صرف أي اعتماد إضافي إلا بموافقتها، لا يخلي ساحة السلطة التشريعية ويبرئ ذمتها أن تتعذر بأنها (مجبورة) على قبول مدة عامين للميزانية وليس كل عام فذلك يتطلب تعديلاً دستورياً، ولا يخلي مسؤوليتها أن تتعذر بتعنت الحكومة في تقديم التفاصيل ولا يخليها أيضاً تعذرها بضيق الوقت الذي تضغط به الحكومة على السلطة حين تؤخر متعمدة وقاصدة البرنامج أو الميزانية، كما لا يخلي مسؤوليتها منطق (شنسوي بعد؟) فتقر الحساب الختامي مكتفية بتوصيات أن السلطة التشريعية شريك رئيس في رسم ووضع وإقرار السياسة الاقتصادية والمالية للدولة، إن كانت الحكومة فشلت في هاتين السياستين فذلك تم بالشراكة مع السلطة التشريعية.