أصبحت المعركة اليوم، وبدون مبالغة، معركة وجود ومصير، أي «نكون أو لا نكون، ويتوجب في هذه المرحلة البالغة التعقيد التعامل معها بحنكة وذكاء، بعيداً عن كل أشكال التعصب والعاطفة والمناكفات.
ويجب على علماء ومفكري الأمة بكل مذاهبهم ومللهم النهوض بشعوب المنطقة وجمعهم تحت خيمة الوطن وتعاليم الدين السمح الذي يبشر ولا ينفر ولا يكفر، كما يتوجب أن يعي الحكام وقادة الأحزاب والجمعيات والتجمعات وأصحاب العقد والربط ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهم في توقيت زمان ومكان بالغ الأهمية والخطورة.
مما يستلزم مغادرة العقلية والأفكار القديمة في إدارة الأزمات، ووضع واعتماد خارطة طريق حاذقة بأقل الخسائر، مع المحافظة على رصانة الوضع الداخلي وتشريع تجريم أي محاولة لشق الصف الوطني واللعب بالورقة الطائفية التي يعول عليها الأعداء بتوظيفها لتمزيق الأمة، ونجحوا للأسف في اختراق دول معروفة تحترق أمام ناظرينا ويسعون جاهدين لتعميمها.
كذلك من مسارات تلك الخارطة في إدارة الأزمات هو تفعيل الجانب الاقتصادي، فقد عشعش واستثمر الأعداء آمنين في أوطاننا وأصبحوا يستمدون قوتهم من رؤوس أموالنا، فهذه هي الغفلة بعينها.
كما يتوجب الإعداد لنقل المعركة إلى أرض الأعداء قدر الإمكان، وبعضها رخوة ومن السهل اختراقها في ما لو أردنا إشغالهم وتخفيف الضغط الحاصل على بلادنا والذي وصل حداً لا يحتمل، فكفى أن تدار رحى المعارك منذ ما يزيد عن نصف قرن في عقر دارنا.
ومن الملفت للنظر أن جميع النزاعات والحروب في العالم قد سكنت، ولم تعد هنالك مناطق ساخنة وملتهبة، ولكنها استعرت النار وشررها المتطاير في سمائنا وأرضنا.
فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ودخول المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في صراع ما يسمى بالمواجهة الباردة مع المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، أيقنت الدول الكبرى أن أفضل الطرق لإدارة الحروب وبأقل الخسائر هو إدارتها بالإنابة، فأصبح لكل دولة من تلك الدول تمثيلاً وخلايا في الدولة الأخرى وعلى حدودها.
وليس خافياً على أحد الدور الأمريكي في إشعال الحروب في المنطقة بالإنابة منذ سلسلة الحروب مع الكيان الصهيوني، حيث أوكلته لذلك، وهي حروب أمريكية-روسية بالإنابة، ووجه الخلاف هو مصادر التسليح فقط.
لكن وقودها هم المستضعفون من المسلمين والعرب، وكانت روسيا ومازالت تمثل دوراً ماكراً بتبنيها القضايا العربية، لكن من وراء الكواليس كانت سياسة متوافقة تماماً مع البيت الأبيض والكيان الصهيوني في تمزيق المنطقة والقضاء على أهدافها المشروعة، وبالذات القضية الفلسطينية.
ثم نجحت الولايات المتحدة الأمريكية أيما نجاح وأسقطت المعسكر الاشتراكي بالضربة القاضية، عندما خططت بحرفية متناهية لإدارة حرب معقدة مع خصمها التقليدي، لكنها أوكلت الدور لبعض المغفلين تحت «يافطة» الجهاد ومقارعة الشيوعية والإلحاد إلى أن أنهكته وأسقطته إلى غير رجعة، وصنعت بعد ذلك من بعض أولئك المتوهمين أنهم مجاهدون، جحافل تجوب بهم دولنا لتعيد بهم رسم سياسة وخارطة جديدة متى ما استوجب الأمر.
وحتى الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي هي بالتأكيد حرب بالإنابة، وبنفس القوى المتحكمة في رسم السياسة الخبيثة الماكرة بتوريط الدول وسوقها معصوبة العيون لمصرعها، فواصلت دعمها لطرفي النزاع في حرب ضروس أحرقت الأخضر واليابس، وانتعشوا هم اقتصادياً وأتلفوا فوق رؤوسنا آلافاً من أطنان الأسلحة التقليدية والمحرمة دولياً، مقابل إفراغ خزائننا بل إرهاقنا بديون مجدولة وإزهاق أرواح الملايين من شبابنا، واشترك معهم بذلك الكثير من الدول الغربية.
وحتى مسرحية دخول الراحل صدام حسين وغزوه للكويت الشقيقة كان حرباً بالإنابة، فدور أمريكا مفضوح واستطاعت بدهاء ساستها استدراجه لمقتله، واستطاعت أن ترمي الطعم له وللعرب، ومازلت المنطقة تدفع ثمناً باهظاً لذلك المخطط وليومنا هذا.
كذلك من السذاجة والغباء السياسي الإبقاء على حليف واحد ثبت بالتجربة عدم جديته ووفائه بعهوده والتنصل منها عندما تحين ساعة الصفر، فبات من الضروري الاعتماد على الذات، ولا ضير من البحث عن حلفاء يتم إلزامهم باتفاقات وشروط جديدة «محبكة» تقطع الطريق عنهم بالإخلال بالوفاء في التزاماتهم.
كل ما ورد أعلاه هي مرتكزات ومخرجات خارطة الطريق، وهي أدوات فاعلة في إدارة الملفات الساخنة، وتلك أيديولوجية اليوم أصبحت تتعامل بها كبريات الدول مع مناوئيها، وبالذات أمريكا وروسيا وفرنسا والصين، ودخلت حديثاً جمهورية إيران «الإسلامية» على الخط، والتي سنفرد لها تفصيلاً.
.. وللحديث بقية