علينا أن نميز بين مشهدين من مشاهد العنف التي بدأت تروج في الوطن العربي؛ الأولى هي مشاهد القتل الناجمة عن الحروب والهجمات العسكرية بصورها المتعددة التي تنتج مشاهد الخراب والجثث الملقية في كل مكان وما يصاحبها من البكاء والعويل. والثانية هي الأفلام التي تصورها الجماعات المتقاتلة لمشاهد الإعدامات بقطع الرؤوس أو الحرق أو إقامة الحدود على النساء والرجال التي ترافقها صيحات التكبير والتهليل. وفي السنوات السابقة كانت وسائل الإعلام وعلى رأسها القنوات الفضائية تمتنع عن بث صور القتل الناجمة عن العمليات العسكرية أو تنوه معتذرة إلى وجود بعض المشاهد المؤثرة، أما اليوم مع تعدد وسائل الإعلام الاجتماعية فقد صار كل شيء قابلاً للبث وصارت المشاهد العنيفة الأكثر تداولاً ومشاهدة!!
ربما كان تنظيم القاعدة أول تنظيم يبث أفلاماً لعمليات الإعدام التي بدأها عقب الحرب الأمريكية على التنظيم في أفغانستان بالأفلام القليلة التي انتشرت لقطع رؤوس بعض الصحافيين والجنود الأمريكيين الذين يقعون في الأسر. ثم تلاه بث أفلام مماثلة من العراق ربما كان أقساها مشهداً قتل الإعلامية بقناة العربية أطوار بهجت عام 2006، كما أن مشاهد تعذيب الجنود الأمريكان للعراقيين في سجن أبوغريب أحدثت صدمة شديدة لا تقل عن صدمة المشاهد التي تم تسريبها لعمليات التعذيب والتقتيل والتمثيل في الجثث التي ارتكبتها الميليشيا الشيعية ضد أهل السنة في العراق. وكل الفظائع السابقة تسربت للمتلقي العربي وأحدثت عنده تقبلاً للمشاهد العنيفة وانخفاضاً سيكولوجياً لما يمكن أن يعتبره مشهداً مروعاً يستدعي تجنبه. لكن ما تفرد به تنظيم القاعدة وما بالغ فيه تنظيم داعش من بعده هو التباهي والتفاخر بمشاهد الإعدامات الوحشية واتخاذها استراتيجية لتحقيق نصر استباقي.
وقد أحدث ما سمي بالربيع العربي طفرة نوعية وكمية في نشر صور الجثث وأفلام الإعدامات. كان أحدها الأسلوب الفج والهمجي في عملية أسر وقتل الرئيس الليبي السابق معمر القذافي والتمثيل بجثته. وهدفت تلك الصور والأفلام إلى تحقيق هدفين. الأول هو خلق حالة من الرعب في نفوس الخصوم، وهي استراتيجية داعشية تتخذ من الصيت المخيف الذي يكتنف عملياتها الإرهابية وسيلة لإضعاف خصومها قبل وصولها لهم. وهذا ما يفسر تقهقر الجيش العراقي وهروبه دون مواجهة تنظيم داعش والفرار التلقائي للمواطنين من العديد من المحافظات العراقية التي أعلن داعش أنه متوجه إليها.
الهدف الثاني هو التشفي بالعدو بنشر صور جثثه أو مشهد إعدامه، وبث رسائل بأن ذلك مما يشفي صدور الأتباع ويرفع من معنوياتهم وحماستهم. وهي ثقافة وجدانية خطيرة بدأت تشيع في شبكات التواصل الاجتماعي التي تدار العديد من حساباتها بأسماء وهمية لصالح جهات رسمية أو حزبية أو فئوية ذات صلة بمكاسب الحروب العربية. هذه الثقافة مؤشر على بدء تشوه المركب الإنساني في الشخصية العربية التي نشأت على نهج ديني يحدد أسباب القتل ويحدد، أكثر وبدقة، الشخص المطلوب قتله، ويحرم التمثيل بالجثث والتشفي بالمقتول، ويعرف هيبة الموت وحرمة الموتى. وشيئاً فشيئاً نشأ بيننا اتجاه نجح في «التطبيع» مع جثث القتلى ويحاول الانتقال إلى مرحلة «التلهف» لرؤية المزيد من تلك الصور والمشاهد والتعليق عليها بعبارات تفتقد إلى اتزان وإنسانية كاتبها.
أمام الصور والأفلام المعبرة عن تيار «التطبيع مع القتل والتلهف لمشاهدة الجثث المشوهة» لم يعد مهماً من المقتول، ومن القاتل، ولم يعد مهماً لماذا وقع القتل؟ المهم أننا سقطنا في واقع دامٍ عميق الخطورة والإرهاب، وأن ثمة جماعات تنشأ بيننا تحترف فنون القتل وتجيد تزيينه في وجدان أتباعها، وأن النفس العربية بدأت تقبل بقتل الآخر والتمثيل به والتصالح مع مشاهد العنف وتبريرها وتزيينها؛ الأمر الذي يطيل أمد الحروب العربية ويهدد بإمكانية إعادة إنتاج جرائم القتل بكثافة في الحياة الاجتماعية.