في الوقت الذي تعيش فيه بعض المؤسسات الوطنية في سعة وبحبوحة، بين مؤتمرات ومسابقات وبرامج ترفيهية وترقيعية وبعض من البرامج التي يسمونها احترافية، هناك تقشف على أشده يبدأ برفع الدعم عن السلع الغذائية للمواطنين، وهذا أمر قد يكون مقبولاً -كما قلنا سابقاً بأن التقشف عام وشامل- أما أن نسمع عن ميزانية قدرها 65 مليون دينار -مثل ميزانية «تمكين»- تذهب إلى برنامج سمي «أصيل في المدرسة»، وبرنامج شهادات احترافية والتي تبلغ كلفتها للفرد الواحد 4 آلاف دينار كمشاركة في مؤتمر أو دورة مدتها 4 أيام، وغيرها من البرامج العديدة التي ليس لها علاقة بإصلاح سوق عمل، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن هذه الميزانية تصرف على موظفي شركات مثل شركة «تطوير» وغيرها، والتي من المفترض أن لديها ميزانية خاصة لتدريب موظفيها.وللعلم؛ إذا كان هذا التدريب مقترناً بتوظيف فإنه لا يتم الإعلان عنه، كما لا يتم الإعلان عن الدورات إلا عن طريق تقرير ونشره في بعض الصحف المحلية، وليس كإعلان واضح.وهذا تقرير نشر في صحيفة «الوسط» يقول بأن «تمكين» توقع اتفاقية مع «سيتي بنك البحرين» لتدريب وتوظيف البحرينيين، وأشير في نهاية التقرير بأنه «على المهتمين التقدم اعتباراً من اليوم 1 يونيو 2015 عبر قسم الوظائف على موقع البنك»، فأين مشروع التوظيف بوزارة العمل؟ وأين مسؤولو وزارة العمل؟ وأين هيئة سوق العمل؟ هل عندهم دراية وشراكة واستراتيجية لهذه البرامج؟ كما نسأل؛ هل ساهمت هذه البرامج في القضاء على البطالة، خصوصاً أن كلفة بعضها تتجاوز الأربعة آلاف دينار للشخص؟ فمثلاً إحدى الدورات التي أقيمت مؤخراً في أحد الفنادق في مجال البروتوكول مدتها 4 أيام وكانت كلفة المشترك 3500 دينار، وقد تجاوز عدد المشتركين الثلاثين فرداً، أي بكلفة تقدر بمائة وعشرة آلاف دينار تقريباً وعلى حساب «تمكين».لم يتوقف بذخ الصرف على المؤتمرات والفعاليات، فهناك أوجه عديدة تصرف فيها ملايين الدنانير، حتى أعلنت «تمكين» مؤخراً عن عجز في ميزانيتها بقيمة 3 ملايين دينار في 2014، رغم اعترافها بارتفاع الإيرادات من الرسوم إلى 75 مليون دينار، بينما بلغت مصروفاتها 79.13 مليون دينار، كما يقول التقرير إن المصروفات تنوعت على العديد من البنود، منها مصاريف المشاريع 54 مليون دينار، ورواتب ومنافع وتعويضات الموظفين بمبلغ 4.4 مليون دينار، ومصروفات عمومية وإدارية بمبلغ 2.7 مليون دينار.وكما جاء في التقرير الأخير عن ميزانية 2015، حيث صرح مجلس الإدارة: «إن عملياتنا وبرامجنا المحدثة دعائم راسخة للارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة للمواطنين ودعم القطاع الخاص وعجلة التنمية الاقتصادية المستدامة بشكل عام»، فأين أثر هذا الدعم على الاقتصاد، أم أنه شفاف وغير مرئي؟ وأين حصة كل مواطن من هذا الدعم؟ وهو الذي جبيت منه هذه الملايين رغم عن أنفه، ثم لماذا يتم دعم شركات وطنية وبنوك؟ إذ من المفترض هي من تدعم الميزانية العامة للدولة، فإذا بها تعتمد على إيرادات الدولة في تدريب موظفيها أو تتعاون مباشرة في التوظيف مع «تمكين» من خلال متدربيها الذين لا نعلم من أين يأتون في ظل وجود قوائم من الخريجين لا يحتاجون إلى دورات، فلديهم شهادات من جامعات عالمية ومحلية، ثم ما دخل «تمكين» ببرامج وزارة التربية أو دعم أنشطة صيفية لبعض المؤسسات الحكومية.لا ينكر أحد مستوى خدمات الدولة التي تقدمها للمواطنين، ولا ننكر المساعدات التي تصرفها الدولة لدعم المواطنين من أرامل ومطلقات وذوي احتياجات خاصة وبدل سكن، ولا ننكر ما قدمته الدولة من مشاريع ليس له مثيل في العالم كله، مثل مشروع «إعادة تأهيل البيوت الآيلة للسقوط»، ولا ننكر الميزانية التي كانت تخصصها الدولة لدعم مشروع توظيف العاطلين، ولا ننكر أيضاً النهضة التعليمية التي تقودها وزارة التربية والتعليم، والتي تكلف الدولة مئات الملايين من الدنانير سنوية، كذلك الخدمات الصحية التي ينعم بها المواطنون، فالدولة قد وفرت للمواطنين أدوية عالية الجودة وعلاجاً مجانياً، عدا الخدمات الإسكانية.هذا كله محل تقدير ومحط إعجاب وفخر؛ لكن ينبغي على الدولة إذا ما اعتمدت «عملية التقشف» أن تبدأ بهذه المؤسسات، وتعيد النظر في استراتيجية الاقتصاد الذي لم تنفع معه ضريبة العشرة دنانير، فوالله لو كانت هذه الضرائب تذهب لمكانها ولأهلها فلا حسرة ولا أسى، ولو كانت إيراداتها تبني مستشفيات ومدارس وجسوراً وتعيل محتاجين أو لدعم متقاعدين أو دعم العمال ذوي الأجور المتدنية لكان الأمر مقبولاً، لكن أن تصرف مئات الملايين على برامج مثل «نخلة» و«أصيل» ودعم مؤتمرات للطبقة الراقية، فهذا أمر يجب أن يعاد فيه النظر، فليس من العدالة أن يكون التقشف وربط الحزام على بطون والبحبوحة وإرخاء الحزام على بطون.الدولة هي عيوننا وحبها يسري في عروقنا وشعبها معها في سرائها وضرائها، وبإذن الله لا ضراء لها، ولذا لابد للمحب أن يشد على يد محبوبه، واليوم نشد على يد مملكتنا الغالية ونقف صفاً واحداً مع قيادتها الرشيدة، ونقول لها نعم للتقشف؛ لكن فليبدأ التقشف بهذه المؤسسات التي يتقلب موظفوها على ما لذ وطاب والتي تنثر بيدها يميناً وشمالاً مئات الملايين التي تجبى من جيوب المواطنين وتنفق في فعاليات ونشاطات، ودعم محل شاي، ومحل كباب، وكرنفال وحفلات، وبوفيهات، ثم يدفع المواطن فاتورة هذا التبذير والبذخ في هذه المؤسسة وغيرها من المؤسسات والشركات التي سبق الإشارة إليها في مقالات سابقة.