في عمودي السابق تحدثت عن استقدامي لمربية جديدة لتعين المربية القديمة في متابعة شؤون أبنائي، والصراع الذي حدث بينهما مع أنني حرصت أن تكونا من نفس الجنسية والدين والثقافة لتقليل فجوة الاختلاف بينهما، تصاعد بحجة الاختلافات غير الجوهرية.
استمر خلافهما دون أسباب منطقية ودون أن أعرف له علاجاً شافياً. وبت أبحث وأفتش عن حلول للتقريب بينهما، لا سيما أن خلافاتهما المستمرة بدأت تؤثر سلباً على أبنائي. فعندما تتخاصم ليزا مع فلور فإنها تمنع ابني إبراهيم من اللعب مع أخيه عبدالعزيز!!
أخذت هذه المشكلة الحيز الأكبر من تفكيري، وبت أبحث عن حلول! لماذا لا يؤمن العديد بثقافة الاختلاف، ولم لا نتقبل الأخرين كما هم؟ هل المعادلة صعبة، وهل التعايش مستحيل؟
ولأن الموضوع لا يُختزل في ما يدور في منزلي بل هو واقع تعيشه معظم المجتمعات والبلدان، بات من المؤكد والضروري أن نشر ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر أصبحت حاجة أساسية وملحة، خاصة في ظل هذه الظروف الحساسة والحرجة التي نعيشها اليوم. ويجب زرع هذه الثقافة في نفوس وعقول الجميع، لأنها تساهم بشكل فعال في خلق جيل واع قادر على تحمل أعباء المسؤولية وقيادة المرحلة القادمة بشكل إيجابي وسليم، ولأن مثل هذه الثقافة تشكل ترسيخاً قوياً لمعالم الوحدة الوطنية التي ينبغي بناؤها على أساس من الثقة وبعيداً عن الهواجس وحسابات الربح والخسارة، وحسابات أنا أفضل من الآخر، وحسابات «من ليس معي فهو ضدي».
إن موضوع ثقافة الاختلاف هو سبب رئيس في شق الصف الواحد وهز الوحدة الوطنية في أي مجتمع، فكيف لمجتمع حديث مثل المجتمع الأمريكي المركب مع عدد من الجنسيات والثقافات والديانات أن يعيش أو «يتعايش» في تجانس؟ وكيف لا نحظى بنفس هذا التجانس ونحن نتفق ونشترك في العديد من الثوابت! إن الخلل بلا شك يكمن في تلك العقول التي لا تتقبل الآخرين والذين يعتبرون الاختلاف مدعاة للخلاف.
أذكر أنني في يوم تهيئة في الجامعة في مرحلة البكالوريوس سألنا أحد الدكاترة هل تعرفون لما سميت الجامعة (University) بهذا الاسم؟ وأجاب:»أنها تعني أنها تجمع كل الأطياف وترسخ مبادئ ثقافة الاختلاف».. ستجدون من بينكم مختلف الجنسيات، ومختلف اللغات والديانات، وأمور مختلفة كثيرة لا حصر لها، ولكن هناك هدف يجمعكم وهو العلم والتعلم.. مازالت هذه الكلمات ترن في أذني، فالعالم متغير والمجتمعات باتت مجتمعات مركبة، وانتهى زمن المجتمعات الصغيرة «مثل القبيلة» مثلاً، بل إن أساس المجتمعات عبارة عن شعوب وقبائل «مختلفة» خلقت من أجل «التعارف» و»التمازج» ولا يوجد مجتمع ينشد التجانس بعيداً عن إيمانه «بثقافة الاختلاف»، حيث أن توقع وجود اختلافات في وجهات النظر أمر بديهي، فكما قال الشافعي «قولي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب»، فحدوث الاختلاف على مختلف المستويات في المجتمع الواحد هو أمر طبيعي، حيث لا يمكن أن تتفق جميع مكونات المجتمع بكافة انتماءاته السياسية واختلافاته الأيديولوجية والثقافية على وجهة نظر موحدة. فالتعددية مظهر من المظاهر المجتمعية الصحية التي تقوم على مبدأ الرأي والرأي الآخر مع الاتفاق المطلق على سيادة الدولة وأمنها.
والتنشئة على ثقافة الحوار أصبحت ضرورة في المجتمعات ويجب على جميع المجتمعات والدول الخليجية أن تبدأ في صياغة إستراتيجية متكاملة لنشر ثقافة الاختلاف..
وبما أن آخر العلاج الكي، وأن محاولاتي كلها لم تتجاوز تخفيف حدة التوتر بين المربيتين اللتين وصل الخلاف بينهما للتعبير بصراحة عن كرههما لبعضهما البعض، قررت أن أتخلص منهما مع قساوة هذا القرار الذي يستوجب مني إعادة سيناريو توظيف مربيات جدد أو استغنائي عن وظيفتي لوقت من الزمن!!
وبالفعل دخلت غرفة المربيات بوجه تغلب عليه الجدية، وحدثتهما عن قراري الأخير بإعادتهما إلى بلادهما لأنني منزعجة جداً من تصرفهما وطريقة تعاملها مع بعض، وعدم قدرتهما على التعايش مع بعضهما.
وفجأة تغير المشهد الذي أضاف إلى خبرتي في الحياة حكمة جديدة، فقبل أن أنهي الحوار قاطعتني (ليزا) كعادتها قائلة: أتمنى أن تتراجعي عن قرارك مدام، فأنا ملتزمة بإعالة أبنائي وزوجي، وسوف أعيش في أزمة اقتصادية إذا ما قررت إرسالي إلى بلادي، ناهيك عن أنني أستدنت الكثير من الأموال من أجل أن أدفعها لمكتب الاستقدام.. أتمنى أن تتراجعي عن هذا القرار وأعدك بأنني لن أختلف مطلقاً مع أختي (فلور)!
اعتقد أنها قالت كلمة «أختي» وهي تصف المربية الأخرى التي كانت قبل دقائق معدودة «عدوتها». وأضافت فلور قائلة: مدام، لم أحظ برعاية مثلما حظيت بها في هذا المنزل من تفهم واحتواء، كما أنني أشترك مع أختي (ليزا) في ذات الموقف فأنا أعيل بنتي التي تدرس في الجامعة، وإنني استحملت البعد عنها لكي أوفر لها متطلبات دراستها المادية. أنا أعتذر وأعدك بأن أبدأ صفحة جديدة من (ليزا) مبنية على الاحترام!!!
وهنا تذكرت مقولة سمعتها مراراً من عدد من السياسيين وهي (بأنه لا يوجد ود متبادل، هناك مصالح متبادلة). وما زلت وإلى حين كتابة هذا المقال أعمل على نشر مفهوم ثقافة الاختلاف في منزلي لعل الأمور تهدأ ويبدأ الجميع بتقبل اختلاف الآخر ونعيش أو نتعايش في هدوء وسكينة. كما آمل أن يبدأ الجميع بتثقيف نفسه وأبنائه بهذه الثقافة التي أوصانا بها ديننا الحنيف، لتتطور مجتمعاتنا وتزدهر ولنعيش جميعنا على أرض هذا الوطن بسلام وفي أمن ورخاء.