شخصية حنظلة من أكثر الشخصيات المؤثرة في الوعي العربي على مدار الخمسين عاماً الماضية، تلك الشخصية التي ابتكرها فنان الكاريكاتير الفلسطيني المبدع ناجي العلي؛ وتحولت من شخصية مرسومة على الورق لها منطق تفكيرها وتعبيرها وتفاعلها مع الواقع السياسي والاجتماعي للأمة العربية إلى أهم شخصية سردية في يوميات العرب في كل مكان.
الكثيرون منا لا يعرفون قصة «حنظلة»؛ فحنظلة اسم يدل على مرار العيش وسقم الحياة لاقتباسه من اسم إحدى النباتات المرة ذات الحبوب السامة، وحين ابتكر ناجي العلي تلك الشخصية قدم لها تعريفاً طريفاً باللهجة الفلسطينية يقول فيه «إن حنظلة ولد في العاشرة من عمره وثبت عليه» وهي السن التي غادر فيها فلسطين.
ويظهر حنظلة ممزق الملابس حافي القدمين دلالة على انتمائه لمجتمع الفقر، وعن سبب تكتيفه ليديه خلف ظهره يقول ناجي العلي إن حنظلة عمد إلى هذا السلوك بعد عام 1973، حيث شهدت المنطقة حركات التطبيع التي يرفضها حنظلة؛ فكتف يديه رفضاً واحتجاجاً، فهو ثائر لا مطبع، وحين سئل ناجي العلي متى يكشف حنظلة عن وجهة أجاب: «حين تصبح الكرامة العربية غير مهددة وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته».
واستناداً إلى السردية السابقة وبالتأمل في نسق رسومات الكاريكاتير لناجي العلي تصبح شخصية حنظلة، الشخصية المتجمدة عند تاريخها الثابتة على مبادئها، شخصية تنتهج الصمت موقفاً وتعبر عن احتجاجها برفض الانخراط في التاريخ الحديث، تاريخ الآخرين الذين باعوا القضايا العربية.
وتدل هذه القراءة السيميائية لشخصية حنظلة على فقدانها للفعل وعجزها عن التغيير وسقوطها المفاجئ في الاغتراب عن الواقع؛ ولذلك لا تملك إلا أن تعبر عن رأيها بتقوقعها في تاريخها وتفرجها على ما يحدث بالصمت وتكتيف اليدين امتناعاً عن المشاركة في موجة التطبيع التي تجتاح الوطن العربي، فموقع شخصية حنظلة في رسومات ناجي العلي هو موقع المتفرج. ويتم تفسير وقوفه، أحياناً بأنه توقيع ناجي العلي، ولكن حالة الوقوف وشهود الأحداث دون تدخل أو تعليق أو تغيير من حركة الجسد يعمق حالتي السلبية والعجز التي تعبر عنها شخصية حنظلة.
والسلبية والعجز والفقر الذي تعبر عنه شخصية حنظلة تشي بحال المواطن العربي، ولكنها لا تعبر عن حال المبدع العربي، فشخصية حنظلة السلبية والعاجزة والمتفرجة تحولت إلى أداة لتوثيق ناجي العلي لكم الجرائم التي ارتكبت في الوطن العربي، وكم الهزائم التي منيت بها الأمة العربية. كان ناجي العلي موثقاً للانحدار العربي طوال استخدامه لشخصية حنظلة. وكان حنظلة شاهد عيان يوثق بعينية الغائبتين ما يحدث ويسجل بوقوفه حافياً ممزق الملابس حضوره الأحداث الجسيمة للعرب؛ وهو رصيد تاريخي ستفهم من خلاله الأجيال القادمة كيف انتكست هذه الأمة بعد انتصاراتها. وستتمكن من تفسير المنحدر الذي لم يتعلم العرب تجاوزه رغم كل السقطات التي وقعوا فيها.
شخصية حنظلة تطرح علينا الأسئلة القاسية الواقعية؛ فكم واحداً منا شعر مرات عديدة أنه صار حنظلة؟ أنه تجمد عند نقطة لا يستطيع تجاوزها، وأنه بلغ سقفاً يصعب عليه التعبير عنه فاكتفى بالصمت. وأن الأمور تأزمت من حوله وتعقدت حساباته فلجأ إلى تكتيف يديه والكف عن المشاركة فيما يجري؟ كم مرة شعرنا أننا مضطرون لإخفاء وجوهنا والاختفاء أحياناً حتى نعفي أنفسنا من تحديد مواقفنا ومن الإجابة عن أسئلة لا نملك لها حلاً؟!!
حنظلة الذي ولد في زمن «التطبيع» مع المشروع الصهيوني، كان الأب لكثير من الحنظلات الذين يولدون في زمن توالد المشاريع الصهيونية والذين صار أغلبهم يلجأ للفرجة والمتابعة بصمت وابتعاد عن حركة التاريخ المعاكسة لطموحات الشعوب العربية. لكن ناجي العلي كان مسجلاً أميناً للواقع وموثقاً واعياً لما يحدث. فمن يتولى مهمة ناجي العلي في هذا الوقت العصيب الذي تغطي فيه الغيوم الكثيفة كل تفاصيل أحداثنا الكبرى؟!