لا يحتاج الأمر كثير اجتهاد لنستنتج أن عامة الناس قد صاروا يحجمون عن وسائل الإعلام بمختلف أنواعها المقروءة منها والمسموعة ووسائل التواصل الاجتماعي. حتى الفئة المحسوبة على النخبة المثقفة قد قرر بعضها الابتعاد عن سيل الأخبار وتحليلاتها والاكتفاء بما يشيع بين الناس. والملفت أن غالبية المحجمين تقول لك إنها تعلم ما يحدث وما سيحدث ولا داعي لتقفي التفاصيل من وسائل الإعلام!!
أحدث افتتاح أول قناة فضائية في الوطن العربي mbc عام 1991 نقلة كبيرة في الحالة الإعلامية العربية. الإبهار الذي أحاط بأسلوب طرح القناة واستقطابها لنخب الإعلاميين العرب منح القناة جاذبية خاصة تنافست عليها في ما بعد باقي القنوات الجديدة. والإضافة التي قدمتها القنوات الفضائية هو بث الأخبار من موقع الحدث نفسه وإبرازه حياً على الهواء مصحوباً بتعليقات صانعي الأحداث أنفسهم. وهذا ما بدا جلياً في أحداث 11 سبتمبر وحرب أفغانستان وحروب العراق المتعددة التي تسمر المشاهد العربي أمامها وتفاعل معها تفاعلاً استثنائياً بدا فيه كل مواطن عربي وكأنه مسيس ومنتم وصاحب موقف وقضية.
وبعد أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي «تويتر وفيسبوك» صار تداول الأخبار أكثر إثارة ومتعة واندفع المتابعون في نقاشاتهم وتحليلاتهم في جرأة وطموح كبيرين. والإضافة التي أضافتها وسائل التواصل الاجتماعي في الحالة الإعلامية العربية هي فتح فضاء الحريات على إطلاقها وإتاحة المجال أمام الفئات «المهمشة والممنوعة» لتعبر عن آرائها وتفصح عن نفسها. وتواكب ذلك مع بزوغ ما سمي بالربيع العربي الذي استحق أن يصف البعض سيرورته بأن قائد الثورات الربيعية هو الفيسبوك. وفي أثناء تلك الموجة كان بإمكان أي كان أن يقول ما يشاء عما يشاء وكانت محاولات الردع أو التكميم من قبل أي جهة كانت أشبه بمغامرة غير محسوبة. كانت مفارقة عجيبة في أثنائها!! كانت الآراء الممنوعة هي الأقوى والسلطات السياسية والاجتماعية والدينية تحت رحمة نيران الحالة الإعلامية غير السوية التي دخل فيها الوطن العربي.
ولم يطل الوقت.. انقشعت أحلام العرب الطموحة وانجلى المشهد عن الخطة المشؤومة لكونداليزا رايز بانتشار الفوضى الخلاقة التي تتخلق كل يوم في بقعة عربية دون توقف. والثرثرة العربية باسم التعبير عن الرأي وتحت مظلة تحليل الوضع وفي إطار الفعل التحريضي لم تخلف إلا الدمار والانحدار. فصمت أغلب المغردين وغادر أكثر سكان الفيسبوك وانكشفت أجندات العديد من القنوات الفضائية وعرفنا لماذا تم إغراقنا بآلاف الرسائل يومياً عن أحوالنا ومآلنا ومستقبلنا البائس.
لذلك فمن غير المستغرب أن يزهد الكثيرون ممن كانوا مدمني تتبع الأخبار في الاستمرار في إدمانهم. ومن المقبول أن يشمئز البعض حين تناقش معهم آخر التطورات في أي بقعة عربية مهشمة. فهم صاروا يعرفون الأمور في سيئ وستنتهي بالأسوأ. ولم يعد مهماً عندهم كيف تتعقد الأمور وتتأزم ولا يعنيهم من المسؤول ومن المحرك. فقد صاروا مؤمنين أن المؤامرة على أمتهم لم تعد نظرية بل صارت واقعاً استحكمت حلقاته ومن غير المتوقع أن تفرج في الوقت الباكر.
فقدَ الإعلام بريقه، تدنت أعداد متابعي الصحف، تراجع الإبهار الذي تخلقه القنوات الفضائية. وغاب، في كثير من الأحيان، التأثير التعبوي الذي برعت فيه وسائل الإعلام. وقل حضور كثير من الحسابات النشطة على وسائل التواصل الاجتماعي. وأجد عذراً نفسياً وشرعياً صادقاً لكل هؤلاء. فلم تجدِ مشاركاتهم ولم تغير آراؤهم من الواقع إلا سلباً. وصاروا يستحقون أن يعيشوا في الظل الذي بقي آمناً ما أتاح لهم القدر ذلك.