المعلم الأول للإنسان على وجه الأرض هو الحيوان.. وتحديداً الغراب، والدرس الأول الذي علمه للإنسان هو تغطية جريمته الأولى، قتل أخيه. هكذا نطق القرآن وهذا ما تقر به البشرية في أغلبها، ولذلك فالتأمل في عالم الحيوان هو مجال تعليمي مفتوح، ومن أجل ذلك كانت أهم القصص والحكايات الشعبية ما جاءت على لسان الحيوانات وأحوالها، ومنها الحكمة التي اختزنتها حكايات كليلة ودمنة.تقول الحكاية إن السلحفاة وصلت قبل الأرنب وهو أسرع منها، كان ذلك في سباق جري نظم بينهما، ويقول علم الأحياء إن الغزالة أسرع من الأسد؛ إلا أنها ما أن تفاجأ بأسد جائع يطاردها حتى تقع بين مخالبه، وهذا في أدغال الغابات وربوع الصحراء، فلماذا تقع المفارقات مع الأرنب والغزالة؟ لماذا يخسران وهما الأسرع والأمهر؟في الحكاية كان الأرنب مغروراً حد الغطرسة، وجد السلحفاة تسير في تؤدة منهكة فسخر منها وتباهى بسرعته وخفته، وحين تجنبت الرد عليه تحداها بأن تقبل دخول سباق في الجري معه، لكنها قبلت، فزاد ذلك من زهو الأرنب أنه سيحقق نصراً مؤزراً لا يضاهيه نصر آخر، وفي أثناء السباق وجد الأرنب الأمر أسهل مما تخيل فاستمر في المبالغة في السخرية من السلحفاة باللعب أثناء السباق وتضييع الوقت وقضاء المشاوير، بل حتى بالنوم. ولكن النوم سلطان وقد قضى عليه سلطان النوم بفوات الوقت، فعكفت السلحفاة على اجتهادها حتى وصلت خط النهاية واستفاق الأرنب وهي على عتبات الخطوات الأخيرة من إتمام السباق، ولم تسعفه سرعته النارية في الفوز عليها والوصول قبلها. غرور الأرنب وثقته الزائدة في نفسه والزائفة في الآخر عطلت ملكاته وشتت اهتماماته، فلم يكن مضطراً من حيث الأساس إلى تحدي مخلوق هو بالقطع أبطأ منه، تلك كانت الهزيمة الأولى للأرنب؛ أن يستخدم تفوقه في إثبات ضعف الآخرين وفي إحراز نصر مجاني تمنحه له الطبيعة دون عناء شخصي منه، ثم إن الأرنب بنى إنجازه وهو يمعن في السخرية من السلحفاة، وتلك كانت الهزيمة الكبرى. فمفهوم الآخر عند الأرنب مفهوم مضطرب لأن مفهوم الأنا عنده متضخم بشكل غير سوي يجعله يرى الأمور في غير حجمها الطبيعي، فاجتهدت السلحفاة وجدت ولعب الأرنب وتلاعب، فظفرت هي بصبرها واجتهادها وخسر هو بغروره وغطرسته.وفي التركيبة البيولوجية للغزالة تتميز بنيتها بالرشاقة والخفة واعتدال في طول السيقان يجعلهما صديقتان للريح تسعفهما إن احتاجت الغزالة هروباً، غير أن التركيبة النفسية للغزالة ينقصها قدر من الثقة. فهي لا تؤمن بقدرتها الاستثنائية على الطيران أرضاً، ولا تكف عن التفكير في أن عدوها سيظفر بها حتماً وأنه هو الأقوى، لذلك فحين يطاردها أحد الأسود فإنها تنشغل بالالتفات خلفها لقياس المسافة بينها وبينه، إنها حالة من الفضول، في غير محله، يخلقها القلق الناتج عن ضعف ثقتها في قدراتها، فتقع صيداً سهلاً لمن هو أضعف منها في المواهب.يعلمنا الاعتبار من التأمل في عالم الحيوان التواضع أولاً، وأخذ الحكمة ممن نظنهم حولنا ضعفاء. وتعلمنا حكايتا الأرنب والغزالة، وهما حكايتان متماثلتان في البنية، «بنية السبق والسباق / والأقوى والأضعف»، أن استخدام المهارات والمواهب يحوجنا إلى استثمارها الاستثمار الأمثل «شيء من الحكمة، وحسن التقدير، وجودة التصرف». فليس امتلاك ناصية الأمر هو الكفيل ببلوغ الهدف. وليس تفوق الآخر بقوته هو القادر على هزيمتنا، النصر والخسارة مرتبطان بالحكمة، والحكمة ضالة المؤمن، والله يخلق ما لا تعلمون.