عام مضى ومدينة «نينوى» قرية النبي الصالح يونس مغيبة عن العالم، وهي اليوم أسيرة لمجاميع إرهابية تمكنت من المدينة بموجب صفقة ومؤامرة. وخلال عام عصيب، وهو أشبه بعام الحزن، لم ينتج عن تلك المجاميع المارقة إلا الخراب والدمار.
فالتعليم في كل مراحله معطل بدءاً بجامعة الموصل العريقة والمعاهد العلمية والمدارس وحتى رياض الاطفال، فجميعها قد أوصدت أبوابها وتفرق أساتذتها في بقاع المعمورة، والمستضعفون منهم بقي ملازماً لبيته عاكفاً على كراريسه وكتبه.
ومنصة القضاة يعلوها التراب ونسج على سقوفها ونوافذها العنكبوت بيوتاً واهنة، ولم تعد تسمع هناك مطرقة القاضي وصوت المدعي العام ولا الجملة الشهيرة نادوا على الشهود، مدينة بلا قضاء إلا القضاء الذي ارتضته تلك المجاميع لنهجها، ويمارس خارج المحاكم الشرعية ودون أن يرافق المتهم وكيله ولا وجود للتمييز ولا للاستئناف، والأحكام فيها قسرية إما إخلاء السبيل وهو ما ندر أو دق الرقاب فوق الحجر.
أما المحاكم الشرعية وما يتعلق بما يحتاجه المواطن من توثيق مستجدات حياته من زواج وطلاق وولادات ووفيات فكلها معطلة، وربما تقيد في أسلوب بدائي بعيداً عن السجلات المدنية.
وفيما يخص الدوائر التنظيمية والخدمية فهي مهجورة وأرغم موظفوها بالتواجد فيها مرة في الأسبوع كإسقاط فرض، ويحضرون مجردين من الصلاحية ودون أن يقدموا أي خدمة مدنية، ولولا أن تتراكم النفايات وتكدر على أولئك المارقين عيشتهم لما فتحت أبواب دوائر الأقسام البلدية ولا شغلت آلياتها الحديدية!!
أما حلقات البيع والشراء والاستثمار والتطوير العقاري والبناء فهي معطلة تماماً، ويعيش العراقي الموصلي يومه دون أمل أو خلاص وقد يئس من وعود ودجل وكذب حكومته.
ولو عرجنا إلى الجانب الصحي؛ فالمدينة وأهلها مقبلون على كارثة مدمرة إن لم ينتبه لذلك المجتمع الدولي ويتحرك لاحتوائها؛ فالمستشفيات خاوية من كل مستلزماتها وعاجزة أن تقدم أبسط أنواع الخدمات، وانتشرت مؤخراً الأوبئة والأمراض الخطيرة بسبب التلوث البيئي وتلكؤ منظومة تعقيم مياه الشرب وانعدام المتابعة الصحية والنقص الشديد في الأدوية، كذلك توقف برنامج الأمم المتحدة في متابعة لقاحات الأطفال والذي يدق ناقوس الخطر وربما ستنتقل آثاره المدمرة إلى دول المنطقة.
أما ما حل بأهلها من دمار معنوي فلم تكابده مدينة على وجه الأرض قديماً ولا حديثاً، فقد عمد أولئك المارقون إلى سلخها عن تاريخها حيث أجرموا بحقها وبحق الإنسانية عندما زين لهم الشيطان أعمالهم في بادئ الأمر، وفي أحد أيام شهر رمضان المبارك من العام الماضي، بالاعتداء الآثم على أحب الأماكن إلى قلوب العراقيين والموصليين على وجه الخصوص، وذلك بالإقدام على نسف جامع النبي يونس، رمز المدينة وعنوانها، ثم أعقبه تفجير جامع النبي شيث والنبي جرجيس، فمعروف عن تلك المدينة أنها مدينة الأنبياء والأولياء. ثم الاعتداء الآثم على الأقليات وتهجيرهم، خاصة الإخوة المسيحيين، وإجبارهم على ترك مدينتهم وهم جذر أصيل متأصل فيها، وتوالى التدمير الممنهج فجرفت آثار النمرود والحضر ونهبت ثم حطمت مقتنيات المتحف الوطني وانكسرت بذلك نفسية الموصلي أيما انكسار.
هذا غيض من فيض مما أفرزته تلك المجاميع الإرهابية بنهجها البعيد عن كل تعاليم الإسلام والإنسانية، والتي مسخت تلك المدينة الجميلة الغافية على دجلة الخير وأبدلتها بالفوضى والخراب.
ومع ذلك يصر المسلمون هناك على التمسك بتعاليم دينهم الحنيف ويجددوا عهدهم مع الله في عام الحزن ليؤدوا شعائر رمضان ويتناولوا رطبات الإفطار مع سماع صوت مدفع الإفطار، لكن هذه المرة بالذخيرة الحية، متحدين بإيمانهم كل أشكال الجوع والفقر والخوف والمرض وانعدام سبل الحياة الكريمة في بؤس وحسرة.
أفلا يخشى الظالمون أن يصيبهم بعض دعاء أولئك المظلومين عند الإفطار، والصائم لا ترد له دعوة، فكيف إن كان من يرفع أكفه ربما طفل محروم يتيم أو أرملة أو رجل قعيد أو عجوز أو شيبة كبير أو صاحب مظلمة أو معتقل أو أسير، وذرفوا مع دعائهم دمعة مظلوم وزفرة كسير!!!
فالحذر الحذر من دعوة الصائم المظلوم عند السحر أو الإفطار، فسهامها ربما تصيب وتصرع الأقدار.