لو سألت هذا السؤال لرجل دين لتلعثم في الإجابة؟
الأبحاث والدراسات التي تعنى بالإشكالية بين الأمة والوطن قليلة وشحيحة ومتداولة تداولاً نخبوياً وليس على المستوى الشعبي، وهذه طامة كبرى إذ لم يعبأ أئمة المساجد أو الجماعات الدينية بحل هذه الإشكالية عند الشباب المتدين الذي يتلقى مفاهيمه وقيمه من هذه المواقع، بل تركت لاجتهادات فردية خجولة هنا وهناك.
غرس مفهوم الوطن وحبه أصبح مهمة جديدة للدول الأوروبية بعد أن ظنت تلك الدول أن هذا المفهوم يغرس تلقائياً في الأجيال تلو الأجيال، لكنها اكتشفت أن هناك أجيالاً جديدة تركت لتربيها المساجد وهناك ضاع مفهوم الدولة.
حرق جوازات السفر أو دعسها بالرجل ظاهرة يشترك فيها سنة وشيعة ممن ينتمون لجماعات دينية متطرفة نبذت أوطانها العربية أو الأوروبية، جماعات لا تعترف بالأوطان أصلاً وترى الوطن عائقاً أمام توحد «الأمة» لهذا لا مكان لجواز السفر الوطني لأنه لا مكان للوطن عند هذه الجماعات.
وبالطبع الأمة إما أن تكون للسادة الإسلاميين «السنة» ويحكمها خليفة المسلمين، أو للمؤمنين «الشيعة» ويحكمها الولي الفقيه، أما المفارقة أن المؤمنين هم مواطنون من الدرجة الثانية في دولة الإسلاميين، وأن الإسلاميين هم مواطنون من الدرجة الثانية في دولة يحكمها المؤمنون.
إنما ليست الجماعات المتطرفة كداعش وعصائب أهل الحق وأبوالعباس أو حزب الله ومن لف لفهم من جماعات سنية وشيعية عنيفة من يحتقر الأوطان ولا يعرف قدرها ولا يربي أبناءه على حبها، المشكلة أن مفهوم الوطن في الخطاب الديني عموماً في دولنا مفهوم ضعيف مبهم غير واضح، ومازال شبابنا يسأل شيوخ الدين ومواقع الفتاوى عن الوطن أين موقعه شرعاً؟ وهل الاحتفال باليوم الوطني حلال أم حرام؟ وهل نحيي العلم؟ إذ حتى العلم ناله من الاحتقار ما ناله فهذا يدوسه وذاك يحرقه وشهدت ساحات المدارس معارك حين يجبر الأساتذة طلابهم على تحية العلم.
الإشكالية الثانية أن «الدولة» هي الأخرى بتشريعاتها بمؤسساتها لم تكن حازمة وواضحة بل تهاونت مع الخطاب الديني وتركته خطاباً حراً دون أن تتدخل بالتشريع وبالقانون لغرس مفهوم الوطن والمواطنة عند الأجيال، أو لوضع عقوبات لمن يهين الرموز الوطنية «الدستور والعلم والجواز»، لم تكن التربية الوطنية في المناهج الدراسية إلا مواد للحفظ، كما لم يحمل الدستور مواد تربط بين الالتزامات والحقوق، بل جعل الحقوق واجبة من الدولة تجاه المواطن بغض النظر عن أداء هذا المواطن التزاماته تجاه وطنه، وبالتالي وجدت السلطة التشريعية صعوبة في الربط بين الاثنين حين ناقشت سحب الوحدة السكنية عمن أسقطت جنسياتهم، صحيح أن هناك أموراً أخرى دخلت في الاعتبار حين المناقشة، إنما مبدأ ربط حقوق المواطن بالالتزام بواجباته مبدأ غير مدرج وغير معمول به في جميع تشريعاتنا وحتى في دستورنا.
لذلك كان سهلاً على الجماعات الدينية المتطرفة التي تحمل أجندتها السياسية الخاصة وطموحاتها الخاصة أن تنزع أجيالاً من جذورها الوطنية وتعيد غرسها في تربة غريبة عنها وتمد جذورهم للخارج ثم تعيد استخدام هذه الأجيال وقوداً لطموحها حتى وإن كانت قيادات هذه الجماعة خارج الأوطان، فلا رادع قانوني ولا وعي.
لذلك لم يكن اتصال أو انتماء شباب من أبنائنا في الجماعات المتطرفة «خيانة» وطنية، لأن الوطن لم يكن موجوداً أصلاً في وجدان هؤلاء الذين خانوه، هذه الإشكالية لا نعاني منها نحن فقط -أي في الدول الإسلامية أو العربية فقط- بل تعاني منها الدولة الأوروبية مع أجيال من المسلمين الأوروبيين المولودين هناك والذين يتمتعون بكامل حقوقهم لكنهم هم أيضاً الذين داسوا على جوازاتهم وعلمهم والتحقوا بهذه الجماعات، وها هي الدول الأوروبية الآن تضع استراتيجية شاملة لإعادة غرس مفهوم الدولة، شاملة مراقبة الخطاب الديني ومراكزه وتعيد معالجة تشريعاتها وتربط تمتع المواطن بالخدمات مع التزاماته بالواجبات وتحرمه منها إن هو أخل بالتزاماته، وتسقط عنه الجنسية، كل تلك التدابير اضطرت لها الدولة الأوروبية لتعيد غرس مفهوم الدولة في الأجيال الجديدة بعد أن أفسدت الجماعات الدينية هذا المفهوم.
ماذا عنا نحن؟ ما هي استراتيجيتنا لإعادة الاعتبار للدولة وللوطن؟