لم تشعر الدول الأوربية بحاجة إلى تعريف المعرف فيما يتعلق بمفهوم الدولة و بمنظومة الحقوق والواجبات فيها بأكثر مما ورد في دساتيرها التي ركزت على حقوق المواطن وتركت مسألة الواجبات الموجبات للمواطن تجاه دولته كي تحددها الزواجر والنواهي والضوابط التي ترد في متن التشريعات الخاصة بالحقوق، فلا حق دون ضابط ولا حق دون موجب على المواطن تأديته تجاه دولته.
وذلك بسبب استقرار تلك الدول الأوروبية واستقرار عقودها الاجتماعية، فكان الصراع السياسي يظل يدور ضمن أطر الدولة بين أطراف العلاقة، حتى وقت قريب إلى أن وجدت نفسها اليوم أمام إشكالية انتقال الصراع على الدولة، على وجودها، على هويتها، على سيادتها، وجدت هذه الدول أن جيلاً جديداً يحمل جنسيتها وولد على أرضها ويتمتع بكامل امتيازاته وحقوقه كمواطن لكنه أخل بالتزاماته وأخل بموجباته تجاه الدولة فهدد أمنها وأخل بسيادتها وحقر من رموزها، وهاهي اليوم تعيد النظر بكامل منظومة الحقوق والواجبات في دساتيرها كي تعيد تأهيل هذا الجيل مرة أخرى تأهيلاً وطنياً، كي يعرف أن ما يتمتع به من حقوق لن يتحصل عليه ما لم يقدم هو كل موجبات الدولة من احترام لهويتها ودستورها وقانونها وأمنها وسيادتها.
أوروبا الآن تناقش بالإضافة إلى عقوبات إسقاط الجنسية التي أقرت في العديد من البرلمانات الأوروبية تناقش الآن ربط الحقوق والخدمات العامة (سكن وعلاج وتعليم .. إلخ) بالالتزامات، وحرمان الإنسان من حقوقه كالجنسية أو حرمانه من الترشح أومن الانتخابات ستمتد إلى حرمانه من السكن وحرمانه من بقية الحقوق وتجريده منها إن هو لم يتقيد بضوابط العقد الاجتماعي.
اضطرت أوروبا الآن أن تشرح فلسفة العقد الاجتماعي للجيل الجديد، هذا الجيل الذي اختطفته المساجد وحشت عقله بمفهوم الأمة لا الدولة، بل عملت على تحقير كل ما يتصل بالدولة وجعل حقوق المواطنة التي يتمتع بها هذا الجيل والتي ينالها في هذه الدول المتقدمة هي من النعم التي سخرت له إلزاماً!! مما اضطر الدول الأوروبية إلى إعادة شرح هذه المفاهيم الخاطئة وتصحيح هذا الانحراف الفكري، بل اضطرت إلى الأخذ بمجموعة تدابير ومراجعة التشريعات التي تضع مزيداً من الزواجر والضوابط والنواهي على المواطن وتربطها بالحقوق والخدمات الرعائية، كي تفتح عيون هذا الجيل بأن حقوقه هي بقدر تقيده بالقانون، يخسرها حين يخل بهذا القيد، هذه هي فلسفة العقد الاجتماعي التي يجهلها هذا الجيل الذي ولد وفي فمه ملعقة الحقوق الذهبية في حين جهل جهلاً مدقعاً ما يستوجب عليه تقديمه للحصول على تلك الملعقة. هذا ما جناه الخطاب الديني منزوع الوطنية على جيل كامل من الشباب المسلم في الدول العربية الإسلامية وامتد ليصل إلى الجيل المسلم في الدول الأوروبية، رغم أنه جيل يتمتع بكافة الحقوق والامتيازات التي توفرها تلك الدول لمواطنيها ولم يكن «الحرمان من الحقوق» سبباً لاحتقار وامتهان حق الدولة وموجباتها كما يشاع في حالة الشباب العربي، إذ حتى في الحالة الأوروبية تم نزع مفهوم الدولة والفلسفة التي تقف وراء العقد الاجتماعي بين الإنسان وبين الدولة والقاضية بتبادل المنافع والأدوار.
هذا الانحراف لا يروج له من قبل خطاب ديني قاصر الفهم أخل بالمبادئ العدلية التي قامت عليها الدول وربطتها العقود الاجتماعية، بل يروج لهذا الانحراف في دولنا وفي البحرين مع الأسف خطاب لساسة ولمثقفين ولكتاب ولرؤساء تحرير لا يرون في الدولة البحرينية إلا بقرة حلوب محرومة من موجباتها، وحين تتحدث عن زواجرها وضوابطها ونواهيها والتزامات المواطن تجاهها يستنفر هذا الخطاب ويشحذ همته مستنكراً ومستهجناً وكأنه يجهل أن ما يستهجنه هو أبسط بديهيات أي عقد اجتماعي في مكان في العالم.
فليس هناك فصل يفصل في حقوق المواطن في أي دستور إلا و سمي فصل «الحقوق والواجبات» فليس هناك في أي دولة حقوق مجانية إلا وربطت تلك الحقوق بالواجبات، فإن أخل المواطن بواجباته أخرج نفسه من التمتع بحقوقه.