رغم ندرة متابعتي لبرامج التلفاز في شهر رمضان المبارك، إلا أني كنت محظوظة لمتابعتي، بمحض الصدفة، الحلقتين الخاصتين بـ»الدواعش» من مسلسل «سلفي» للفنان ناصر القصبي، وجزءاً من الحلقة الخاصة بالتسامح في سلطنة عمان من برنامج خواطر للإعلامي أحمد الشقيري. ولو كان الفن والإعلام يحذوان حذو العملين السابقين لكان الواقع الثقافي والاجتماعي العربي في شأن آخر غير الحال المتردي الذي نشهده.
«من أعظم المشاهد»؛ ذلك المشهد الذي يستل فيه الابن الداعشي السكين من أيدي رفاقه ليذبح أباه بنفسه. السياق الكوميدي الذي سارت فيه الحلقتان يختنق في هذا المشهد الصادم حتى يتمنى المشاهد أن يخترق حدث كوميدي آخر قساوة المشهد ليكسر النهاية المخيفة. يخالط المشهد رؤية الأب لابنه يتقدم بصرامة نحوه والسكين في يده مستحضراً صورته صغيراً يجلس على الأرجوحة والأب يدفعه في الهواء. «داعش» تفرق بين المرء وأهله وتدفع الابن لذبح أبيه متباهياً بجسارة دينه وغيرته أمام صحبه. «داعش» كائن مخيف يغير النسيج الإنساني ليحيله وحشاً مطموس البصيرة.
القصة في ملخصها قصة أب «ناصر القصبي» تم التغرير بابنه باسم الجهاد فالتحق بالدواعش فلحق به الأب كي ينتشله من براثن الهوى والردى. وفي معقل الدواعش تكشف الأحداث عن أحوال هذه الجماعة وتكوينها والعينات المنتمية لها والسلوكيات التي تنتهجها من إغارة على قرى الآمنين وتكفيرهم وذبحهم وسبي نسائهم. قدمت الحلقتان ما يعجز الوعاظ والكتاب عن توصيفه من بشاعة تلك الجماعة وخطرها وتدليسها على الدين والعقل. وبرغم ذلك عرضت الحلقتان بفنية عالية لا ابتذال فيهما. فلم تخل الكوميديا برسالتهما ولم تشوه الأجواء الغرائبية للدواعش من جدية المقصد.
وبكل صدق دعوت لسلطنة عمان أن يحفظها الله من الفتن التي انزلقت إليها أغلب الدول حولها. هذا ما يتبادر لذهن من يعرف هذا البلد وهو يشاهد برنامج خواطر لأحمد الشقيري في الحلقة الخاصة بالتسامح والتعايش المذهبي في سلطنة عمان. طرحت الحلقة سلطنة عمان نموذجاً للسلم والتعايش بين المذاهب. وتطرقت لصرامة التشريعات أمام كل من يثير النعرات المذهبية والقبلية والسياسية بين فئات الشعب. وكان أهم المشاهد التي عرضتها الحلقة مشهد صلاة الجماعة يؤديها المصلون من مختلف المذاهب في مسجد واحد. تشاهد فيه الذي يثني ذراعيه يصلي جنباً إلى جانب الذي يهملهما. كما أن الإمام سلم في ختام الصلاة تسليمة واحدة كي يسلم كل مصل حسب مذهبه، فمنهم من يسلم تسليمة واحدة ومنهم من يسلم تسليمتين وكل ذلك متاح ومقبول ومتعارف عليه في عمان. تلك الروح المسالمة والمتعايشة ينتعش بها كل من يزور سلطنة عمان، وهكذا، ففي البرنامج، شهد العديد من المصلين العرب المقيمين في عمان لحال التعايش في السلطنة.
وكان أكثر المشاهد تأثيراً حديث أحد المصلين من العراقيين المقيمين في عمان؛ حيث بين أن العراق كان يعيش حالة التعايش والسلام ذاتها قبل سقوط «الدولة العراقية»، فوالده عراقي عربي وأمه كردية عراقية وإحدى عمات والده شيعية. ومع ذلك لم يأبه أحد منهم لهذا التنوع، حتى أتى الغزو الأمريكي وفرض الطائفية على العراقيين بقوة القنابل المنضدة باليورانيوم. هذا الكلام يؤكده كل العراقيين الذين يتحدثون عن ماضي السلم والتعايش في العراق، فهم لم يكتشفوا مذاهب بعضهم وأعراق بعضهم إلا بعد الاحتلال الأمريكي وقد قضوا دهراً يتزاوجون ويتزاورون ويتجاورون ويجهل بعضهم طوائف الآخرين.
واليوم كذلك تفرض الطائفية على السوريين فرضاً بتقسيمهم إلى سنة وعلويين ومسيحيين ودروز. وهم قد قضوا دهراً لا تطرق الطائفية لهم باباً. واليوم يعبر اليمنيون عن صدمتهم لإقحام المذهبية في بلادهم وزج الزيدية في التشيع والحث على ازدراء الزيود والتحريض عليهم. ويعبرون عن ذهولهم من تقسيم وسائل الإعلام لمساجدهم إلى مساجد سنية ومساجد شيعية زوراً وبهتاناً. وهم بلد لم تعرف المذهبية والطائفية لها موقع قدم في كل تاريخهم العريق.
حين يمس الفن والإعلام جوانب حياتنا الاجتماعية والسياسية الحرجة بعقلانية واتزان وبفنية حرفية تمكنها من بلوغ هدفها نكون على الطريق الصحيح للربط بين الإعلام والفن من جهة وبين الواقع من جهة أخرى. وحين يجمع الإعلام والفن بين تركيبتهما القائمة على التأثير والإبداع والإثارة من جهة وبين احتياجات المجتمع من إبلاغ رسالة سامية تحقق أهدافه، نكون قد حققنا المعادلة الصعبة في إنجاز إعلام وفن مبدعين وهادفين في الوقت نفسه.
لذلك يستحق كل من الفنان المبدع ناصر القصبي والإعلامي المبدع أحمد الشقيري كل الشكر والتقدير على إبداعهما وعلى حساسيتهما الاجتماعية.