عندما كنت في عمر الثامنة، تلقيت من والدي مجموعة قصص تناسب عمري، ولا أزال أذكر بأن أول أمر قمت به أنني تصفحتها بسرعة البرق كي أتأكد أنها مليئة بالصور والألوان. فلاشك أن الصورة المجسدة للكلام المذكور تساعد الفكر في تحليل المعلومات بشكل أدق، وأيضاً تسمح للعقل بأن يسرح في خيال ملهم بأطياف وردية مشرقة، وفي نهاية كل قصة يوجد «حكمة أو عبرة» متجسدة بمثل قديم أو بيت شعر من الأولين.
وعلى المنقلب الآخر؛ فبكثر ما كنت أفرح بالقصص المصورة والملونة فقد كنت ومازلت أعيش في قمة السعادة عندما أتابع برنامجي المفضل، والذي كان يعرض في تمام الساعة السادسة مساء لمدة ثلاثين دقيقة لا أكثر، وهو «توم وجيري»، فهو بالنسبة لي البرنامج رقم واحد على الإطلاق.
إنما من فترة زمنية ليست ببعيدة جداً جمعني بسيدة -أكن لها كثيراً من الاحترام والتقدير- حوار عن الزمن الصعب الذي نمر به في تربية أبنائنا، زمن العولمة والانفتاح التكنولوجي، زمن الضياع الذهني والشرود الفكري والانحلال الأخلاقي، الأمر الذي دفعني للاستشهاد بنوعية البرامج الهادفة التي كانت تبث لنا من خلال الشاشة الصغيرة وأيضاً المسلية، والتي كانت مفتاحاً للبهجة كبرنامج «توم وجيري».
فلا أخفي عليكم استوقفني رد فعلها العنيف على «توم وجيري» بأنه برنامج مسيس تمت صناعته للسيطرة على عقول أطفال وأبناء ذاك الزمن الجميل، مع العلم أن كل المقالب بين الفأر والقط تدور على موضوع إما قطعة جبن أو كوب حليب أو عصفور تاه عن أمه وراح يبحث عن ملجأ أمين يختبئ فيه من برد قارس وصقيع أو ليبحث عن قوت يهدئ به جوعه المدقع الوخيم. معتبرة أنه أيضاً يحوي مشاهد لا أخلاقية خاصة عندما تلبس «القطة ثوب السباحة» وتجلس في الشمس أو عندما تقبل القط توم وتحمر وجنتاه خجلاً!
من شدة صدمتي بتحليلها العبقري الفذ، لم أجد حينها الكلمات التي أدافع بها عن البرنامج الذي كان صديق طفولتي والذي لا يمكن مقارنة وقاحته، رذالته، سخافته، انحرافه، التوائه، اعوجاجه فسوقه وكل المعاني والمفردات التي يتخيلها عقلنا الراشد والواعي بمستوى الأخلاق والأدب الذي يتم تقديمه من خلال بعض المسلسلات الخليجية، وأنا أعني الخليجية وليست العربية بشكل عام.
فهل من الممكن أن يفسر لي الغيورون على دينهم ومجتمعهم العربي الخليجي الأصيل، ماذا عليّ أن أقول لابنتي عندما تشاهد أن سيدة من وسطها المسلم العربي الخليجي، وهي في كامل قواها العقلية والفكرية والصحية، وبكل هدوء بال تطلب الإذن من زوجها بالذهاب لزيارة حبيبها القديم لأنه «راقد» في المستشفى، وكسرت كلمة زوجها ولم تأبه لتهديده لها بأنه «سيرمي» عليها يمين الطلاق ويحرمها رؤية أولادها إن أقدمت على هذا الفعل، ورمت عائلتها وبيتها وراء ظهرها لكي تنفذ ما في رأسها!
فأي انفتاح يجب أن يفتح أبناؤنا نظرهم عليه!
يا لجهلنا.. يا لصغر عقولنا.. يا لحدود آفاقنا.. يا لميل تفكيرنا.. يا لغباء عبقريتنا.. يا لضلال حقنا!
فأي كلام يسرد بعد هذا الموقف والمواقف المشابهة والمماثلة الكثيرة التي نشاهدها كل يوم؟ فتحيتي لمن لا يدرك الفرق بين الانفتاح والانفلات، وما هي العبرة المرجوة لمخرجينا من مثل هكذا مشاهد دائماً وباستمرار؟ فإن كانت حقاً تعكس واقعنا المر الذي نعيشه، فهنيئاً لي ولأبنائي بمشاهدة العالم الجميل من عيون «توم وجيري».