ضاعت قريش عندما أضاعت المسار الذي انتهجته منذ زمن أبينا إبراهيم عليه السلام، ضاعت حينما «أشركت» أحداً في «توحيدها» الله وحينما أخذت «انعطافات» بدلاً من التوجه إليه مباشرة.
الأنبياء والرسل أول ما يحرمون على أتباعهم عملية «التقديس» ويكررون بيان «أنهم بشر مثلهم» أي مثل الناس، في دلالة على أن القداسة هي لله وحده والتنزيه له سبحانه، وعليه لا قدسية لإنسان ولا توجه للتضرع والسجود لأي بشري.
هذا هو نهج الرسل والأنبياء، وهذا ما يدعو له ديننا الإسلام الحنيف، ودعت له الديانات السماوية من قبله، لا قدسية لمخلوق، ولا تضرع أو «تأليه» له، ولا يجب تمكينه من نفوس البشر بحيث يفصل لها الدين وكأنه في موقع الرب.
هذه قناعات راسخة، لابد وأن يتعزز وجودها لدى أي شخص، يؤمن بأن الله واحد، وأن الإسلام دين الحق، وأن لكل نفس ما اكتسبت وعليها ما اكتسبت، وما دون ذلك اجتهادات، بعضها يصيب وبعض منها يخطئ مساره وهدفه ويفرغ مضمونه، بالأخص كونه نتاج عمل بشري، بعضهم يسيء استخدامه، أو بالأحرى يعمد إلى استغلاله.
نعود لقريش ونقول بأنهم ضلوا الطريق حينما آثروا أن يتركوا التوجه المباشر لله سبحانه، ووضعوا بينهم وبينه «واسطات» أو «محطات» أو «وسطاء» سموهم ما شئتم. ضلوا الطريق حينما رأوا بأن الدين لا يتحقق بثوابته الرئيسة المتمثلة لدينا بالإيمان بالله ورسله وكتبه وإقامة الصلاة وبقية أعمدة الدين، ضلوا الطريق حينما أدخلوا البشر في منتصف الطريق بينهم وبين الله. ورغم أن هؤلاء البشر كانوا رجالاً أتقياء صالحين، لهم أثرهم الطيب وذكرهم العطر في الأرض، إلا أن مجرد فكرة «تخليد» أسمائهم عبر تماثيل توضع في محيط الكعبة المشرفة، حول العملية من تقدير وإكرام إلى «تقديس» و«تعظيم» و«تبجيل» قاد إلى «العبادة» بعد «التأليه». تحول الرب الواحد إلى رب لكنه بينه وبين الناس «بحسب ما أقنعوا أنفسهم به» أصبح بينه وبينهم «أرباب» أو «آلهة» عديدة متناثرة، بعضها من طيب، وبعضها من عجين، وبعضها من تمر يشكله الشخص، يعبده ويتضرع إليه ثم يأكله.
الفكرة فيما نقول، بأن الخطورة تكمن في نسيان أساس الأمر كله، في نسيان الغاية العظمى والهدف الأسمى، في نسيان الله، والتركيز على الأمور الأخرى، التركيز على المدخلات التي جاء بها البشر.
نقول ونؤمن بأن الله أقرب إلى عباده من «حبل الوريد» نفسه، بالتالي صلة العبد بربه متصلة لا حجاب بينها، وعليه فإنه حينما يعمد بشري للدخول بينك وبين الله، بحيث يجعل ممارساتك وتصرفاتك تتجه له -أي للبشري- قبل الله في شأن الدين والعبادات والطاعات والتمسك بالتعاليم، هنا يتوجب الحذر، إذ كم من رجال دين هم في الأساس «تجار للدين»، يناقضون بأفعالهم وأقوالهم ما جاء به الدين سواء في القرآن الكريم أو سنة الرسول صلوات الله عليه، كم من مدعين لـ«التدين» لدينا هدفهم من وراء الدين، تطويعه ليكون أداة لسلب إرادة البشر، وتحويلهم لقطعان تسير وراءهم بلا تفكير أو تدبر.
بسبب هؤلاء مستغلي الدين ظهرت العديد من ردود الفعل الغربية وحتى العربية ومن أوساط المجتمعات الإسلامية كلها تتجه في اتجاه تحرير الناس من سطوة رجال الدين، وطبعاً بعض ردود الفعل هذه ليست صادقة في مسعاها لتحرير الناس وتنويرهم بقدر ما تسعى لضرب الدين الإسلامي والنيل منه. لكن في الفئة الأولى هناك من رأى بشاعة استغلال الدين لاستعباد البشر، رأى الإساءة له من قبل من يفترض بهم المحافظة عليه. بالتالي لا ينبغي الاستغراب حينما تصدر وتنشر إصدارات ويتهافت عليها الناس تحمل عناوين ذات دلالات مباشرة أو غير مباشرة تنتقص من قدر الدين، مثل المقولة الشهيرة «الدين أفيون الشعوب».
حينما أنسى الرابط الرئيس لدي بأنه لا يوجد حجاب بيني وبين الله، وبأنني أستطيع عبادته مباشرة دون «صك موافقة»، وأنني أمتلك الإرادة في التقرير بشأن بعض اجتهادات رجال الدين والأخذ بما يتوافق مع كتاب الله وسنة نبيه في شأن تنظيم الحياة، ورفض كل ما هو متطرف ومتشدد وفيه سلب لحق الناس في مجرد التفكير أقلها، حينها لن أكون سبباً في صناعة «آلهة» تحت مسمى حماة الدين، ولن أكون سبباً في الإساءة للدين عبر خلق «أوصياء» عليه وعلى حياة البشر.
الدين أرقى وأسمى من هذه الممارسات، ديننا تم تشويهه، وللأسف ليس من قبل الغرب كما يريد بعض «تجار الدين» أن يقنعونا، بل بسبب من استخدم الدين وسيلة له لتنفيذ مآربه ولاستعباد البشر الذين خلقهم الله أحراراً.