«خفض النفقات.. تقليل المصاريف.. جدولة الأولويات».. إلى غيرها من مصطلحات اعتادت آذان الناس سماعها في الآونة الأخيرة، جاءت كلها بعد الإعلان الصريح من قبل الحكومة بتوجيه كافة الوزارات والهيئات لتخفيض مصاريفها بنسبة 15%، إلحاقاً بسياسة ترشيد الإنفاق المتبعة منذ فترة، وعلى خلفية الأداء «المؤسف» و«غيـــر المرضـــي» للقائمين على تخطيط وإدارة السياسة المالية للبلاد، والتي أدخلتنا لموسوعة «جينيس» للأرقام القياسية بإيصال الدين العام لدولة صغيرة في المساحة وفي عدد المواطنين والمقيمين إلى حاجز السبعة مليارات دينار.
وطبعاً، إذا زادت مصروفاتك، ووصلت لمستوى البذخ والإسراف وصنفت في تقارير ديوان الرقابة المالية على أنها «هدر مالي»، فإنه بالضرورة تكون الإجراءات المطلوبة تقنين الصرف، وخفض النفقات، لتعديل الميزان المالي الذي اختل.
وفي هذا الشأن، أوجه تقليل الصرف كثيرة، وطوال مقالات عديدة ذكرنا أمثلة كثيرة على بعض المبالغ «المليونية» التي تصرف على أمور يمكن الاستغناء عنها بسهولة، دون أن يتأثر الناس سلباً، خاصة وأنها لا تمثل إلا «ترفاً» أو «إكسسوارات» لا يراها أموراً هامة وملحة إلا هذا الوزير أو ذاك المسؤول.
عموماً، التفكير الدقيق في أوجه الخفض مهم جداً في هذه المرحلة، ومثلما تحدثنا عن ضبط ومراقبة سفرات بعض الوزراء والمسؤولين لكثير من المؤتمرات والفعاليات التي بعضها يتضح بأنها «سياحة» على حساب البلد أكثر منها مهام ملحة وحتمية تخدم البلد وعدم المشاركة فيها لا يمثل «حياة أو موت»، ومثلما تحدثنا عن تأجيل أو تجميد بعض المشاريع التي لا أولوية لها بالنسبة للمواطن اليوم مثل مقترحات ومشاريع الحدائق التي لا تنتهي حتى أصبحت البحرين تنافس «حدائق بابل المعلقة»، أو وقف استقطاب فعاليات تكلف البحرين مبالغ طائلة دون تحقيق رضا لدى المواطن بل على العكس استياء لأنها لا تستهدفه بل تستهدف نخباً محددة. مثلما تحدثنا عن كل ذلك، لابد وأن نتحدث عن مسألة بالغة الأهمية نشرت في الصحافة يوم أمس، وهي معنية بمحاولة «خفض ذكي» اعتبرها وأصفها بذلك، كونها تعيد ضبط بوصلة العمل في اتجاه صحيح.
الخبر يقول بأن الحكومة أنفقت من موازنتها (بمجموع ما أنفقته الوزارات والهيئات طبعاً) مبلغاً وقدره 28 مليون دينار بحريني (نعم 28 مليوناً كاملة) في عام 2014 (نعم في عام واحد) على عملية التدريب الخارجي لموظفي الدولة!
تمعنوا لدقيقة في المبلغ، وفي المدة الزمنية، وفي الفئة المستهدفة، وفي الموضوع المعني بصرف هذا المبلغ!
نعم، نتحدث هنا عن التدريب الموجه لموظفي الدولة، والذي من شأنه تطوير مداركهم ومفاهيمهم ومهاراتهم وينمي الأدبيات والأسس الصحيحة لديهم، بما ينعكس إيجاباً على عطائهم في قطاعاتهم، ما يعني تطورهم وترقيهم على الصعيد الشخصي، والأهم قيادة قطاعاتهم للإبداع والتميز والإنتاجية بما يعود على البلد بالخير والفائدة على الصعيد العام.
لكن الواقع يقول هنا، والبحرين صغيرة والعاملون في قطاعات الدولة يعرفون بالقطع أكثر مما نقول، وكيف أن عملية «التدريب» يتم استخدامها في كثير من القطاعات بصورة معوقة وبطريقة تسيئ للتدريب نفسه، خاصة حينما ينظر للتدريب على أنه سياحة وتغيير جو، وتحديداً مع من سعيهم دائماً للحصول على دورات وورش عمل في الخارج حتى لو كانت مخرجاتها غير معتمدة بشهادات مصدقة، أو لم تكن مع بيوت خبرة ومراكز تدريب ذات مستوى وسمعة، الفكرة في أساسها «سياحة» باسم التدريب.
المفارقة أن لدينا في البحرين «ذراعاً تدريبياً» خاصاً بالحكومة، ممثل بمعهد الإدارة العامة الذي أنشىء بمرسوم ملكي في عام 2006، ومنذ بدء عمله وحتى اليوم لا يكاد مسؤول كبير ولا موظف في أدنى الرتب الوظيفية لم يمر على المعهد وبرامجه المتنوعة بين الاحترافية والتخصصية والقيادية والإعدادية لأساسيات العمل وغيرها من سلسلة طويلة من العناوين والدورات المتجددة والمرتبطة أغلبها بشهادات دولية معتمدة، وهذا ما يجعل التوجه إلى التدريب الخارجي مستغرباً، طالما المطلوب موجود في البحرين.
طبعاً هنا نتحدث عن الدورات والبرامج الموجودة والمتاحة، بمعنى أن البرامج والدورات غير المتوفرة في البحرين «لا حول ولا قوة» إزاءها ويذهب لها المتدرب مضطراً، لكن لو تم جرد أوجه صرف الـ28 مليوناً المعنية بالتدريب الخارجي، السؤال هنا، كم دورة أو برنامجاً تدريبيا ًموجود أصلاً في البحرين من هذه الملايين الثمانية والعشرين؟!
في 26 مايو الماضي، عممت رسالة صادرة من الأمانة العامة لرئاسة الوزراء على قطاعات الدولة المختلفة، وأيضاً وجهت لمعهد الإدارة العامة، تخطرهم بقرار مجلس الوزراء رقم (4) في جلسته رقم (2312) المنعقدة بتاريخ 18 مايو، والذي فيه قرر توجيه كافة القطاعات بخفض الانفاق على التدريب وحصر البرامج والدورات التدريبية في معهد الإدارة العامة.
الخبر المنشور بالأمس يمضي ليؤكد التوجه، في حين يفصل (حسب المصدر، وهنا نحتاج لتوضيح رسمي مباشر) بأنه يمكن توفير 20 مليوناً من إعادة توجيه التدريب إلى الداخل، وأن 6 ملايين دينار ستضاف لميزانية المعهد الحالية (مليونان فقط، تشمل كافة العمليات) ليتمكن من احتواء طلبات التدريب الداخلي واستيفاء احتياجات كافة القطاعات.
نكتب في هذا الشأن لما لنا من قرب بالمسألة المعنية بالتطوير والتدريب، ولما نشد به على يد الدولة وقيادة البلد ممثلة بجلالة الملك وسمو رئيس الوزراء وسمو ولي العهد في اهتمامهم الواضح بتطوير الموظف وتأهيله ومنحه الفرصة للتعلم والاستفادة العملية بما يساعده على خدمة مجتمعه وبنائه.
وعليه نقول بأنها خطوة إيجابية ستسهم في مساعدة الدولة بتقليل الصرف، وثانياً ستمنح معهد الإدارة وضعاً أكبر وأهم في مسألة التدريب والتطوير، وهو ما يعني احتياج المعهد لميزانية أكبر، تمكنه من توظيف كوادر بشرية تكون قادرة على استيعاب الزيادة المتوقعة والضغط على طلب البرامج والدورات، وفي نفس الوقت تضمن للدولة عدم هدر ميزانيات التدريب على رحلات سياحية وسفرات تحت ذريعة «التدريب»، خاصة حينما يعود المتدرب من سفرته و«صوغاته» التي يحملها، أكثر من المعلومات التي استفادها، هذا إن حضر الدورة أو البرنامج أصلاً.
خلاصة القول، الاستثمار في التعليم والتدريب والتطوير، أبداً لا يعتبر خسارة على الإطلاق، طالما كان يتم في ضوابط ومتابعة ورقابة تضمن جودة التعليم والمخرجات. ألم يقولوا «اعطوني شعباً متعلماً متطوراً، أحقق لكم أحلامكم»؟!