لا تريد إدارة الرئيس باراك أوباما مناطق «عازلة» في سوريا ولا تريد مناطق حذر طيران وترفض تجنيد وتدريب السوريين إلا لمحاربة «داعش»، وهي في حقيقة الأمر قد انكفأت كثيراً عن مواقفها السابقة التي كانت قد اتخذتها عندما كانت الثورة السورية في بداياتها، وهذا يثير الكثير من الأسئلة والكثير من التساؤلات.. فهل الولايات المتحدة في عهد هذه الإدارة لم تعد ترى في هذا الشرق الأوسط الملتهب إلا إيران ومشكلة مخططها النووي وانعكاسات هذا المخطط على دولة واحدة في هذه المنطقة، الحيوية والاستراتيجية لألف سبب وسبب، هي دولة إسرائيل.
بعد تجربة محبطة وفاشلة يبدو أن إدارة أوباما قد نسيت ما كان قاله رئيسها رئيس الولايات المتحدة في مدرج جامعة القاهرة قبل أعوام عدة، فهي باتت تتصرف وكأنها لم تعد معنية بالقضية الفلسطينية ولا بالمفاوضات المتوقفة بين منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية، وكل هذا وهي تعرف أنه لا يمكن القضاء لا على «داعش» ولا على الإرهاب في هذه المنطقة ما لم ينته هذا الصراع الذي استطال أكثر من اللزوم ويحصل الفلسطينيون على حقوقهم المشروعة ويقيمون دولتهم المنشودة على ما احتل من وطنهم في يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
إن الواضح أنه لم يعد يهم هذه الإدارة، التي بدأت تلملم أشياءها استعداداً للرحيل، لا كل هذا الذي يجري في العراق ولا كل هذا الذي يجري في اليمن وفي سوريا وفي ليبيا وفي فلسطين، وكأن الدنيا كلها قد ضاقت حتى أصبحت مجرد خرم الإبرة الذي ينظر من خلاله باراك أوباما إلى مسألة النووي الإيراني التي يبدو أنه لم تعد تؤرقه مسألة غيرها والتي من الواضح أنه قد تحلى بمرونة لم يتحل بمثلها بالنسبة لأي قضية أخرى إن بالتي هي أحسن وإن بالتي هي أسوأ.
كان أوباما، الذي لا نعرف أين سيضعه التاريخ بين الرؤساء الأمريكيين الذين تناوبوا على البيت الأبيض وعلى الرئاسة الأمريكية منذ ذلك العملاق جورج واشنطن وحتى الآن، قد أعلن، في بداية ولايته الثانية التي تمضي الآن إلى نهايتها بخطى سريعة، عن التزامه بتحقيق أربعة أهداف هي: سحب القوات الأمريكية من أفغانستان ومن العراق والانفتاح على «الجارة العزيزة» كوبا وإقفال معتقلات غوانتانامو سيئة الصيت والسمعة.. وأخيراً التوصل مع إيران إلى اتفاق بشأن مشروعها النووي يحول دون حصولها على القنبلة النووية.
لكن وحتى وإن تم التوصل مع إيران إلى مثل هذا الاتفاق المنشود، الذي كسر وزير الخارجية جون كيري ساقه على دروبه ومنعطفاته الوعرة، فإنه يبقى أن باراك أوباما لم ينجز شيئاً وأن كل ما فعله هو مجرد قفزات في الهواء وفي المكان ذاته، فأفغانستان بعد رحيل القوات الأمريكية بقيت على ما كانت عليه، فحركة طالبان التي كانت هدف غزو عام 2001 ازدادت قوة وفتحت مكاتب لها في طهران وفي أماكن أخرى من الأراضي الإيرانية وكل هذا بينما النظام الذي خلف نظام حامد قرضاي لايزال غير مستقر وهو ترك يواجه مصيراً مظلماً كالمصير الذي واجهته الأنظمة التي تناوبت على هذا البلد «المتعب» منذ انقلاب الجنرال داود في عام 1973 وصولاً إلى دولة الملا عمر الطالبانية الإرهابية التي أنجبت «القاعدة» وأنحيت «داعش» والتي قد تكون هي الهدية المميتة من الانسحاب الأمريكي إلى الشعب الأفغاني وشعوب تلك المنطقة التي من الواضح أنها حبلى بمفاجآت كثيرة.
إن هذا بالنسبة لـ «فضيلة»! الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، أما بالنسبة للانسحاب من العراق فإن المعروف أن كبار الجنرالات الأمريكيين بعد هذا الانسحاب وبعد حصول كل ما حصل يعضون الآن أصابعهم ندماً لموافقتهم عليه، فإيران هي من ملأ الفراغ الذي ترتب على هذا الانسحاب و»داعش» هي أسوأ إنجازاته وأرض الرافدين التي انسحبت منها القوات الأمريكية انسحاباً كيفياً باتت تواجه مصيراً مجهولاً وإلى حد أن هناك في الولايات المتحدة من غدا يفكر جدياً بعودة هذه القوات إلى هذا البلد الغارق في الفوضى حتى ذروة رأسه وعلى نحو ما كانت عليه قبل عام 2011.
ثم وإن المعروف أن «غوانتنامو» لم يغلق حتى الآن، وإن اتفاقية النووي مع إيران حتى وإن هي أنجزت وتم إبرامها فعلاً فإنها بالتأكيد لن تكون طويلة العمر، فالإيرانيون أهل «تقية»، وهذه الاتفاقية كما هو معروف فيها ثغرات وثقوب كثيرة، وإسرائيل حتى وإن هي حصلت على الضمانات التي تريدها فإنه غير مستغرب أن تفاجأ العالم، تحت وطأة «المزايدات» بين أحزابها وتكتلاتها ومماحكاتها السياسية، بضربة كتلك الضربة القاصمة التي كانت وجهتها إلى مفاعلات التخصيب النووي العراقية.
والسؤال هنا، الذي من المفترض أن يطرحه كبار المسؤولين الأمريكيين على أنفسهم وعلى رئيسهم، الذي يظن أنه بما فعله قد أتى بما لم يستطعه الأوائل، هو؛ هل يا ترى أن الولايات المتحدة ذات المصالح الاستراتيجية المهمة جداً في هذه المنطقة الحساسة تفكر فعلاً بالانسحاب من الشرق الأوسط وتتركه تحت رحمة ألسنة النيران الهائلة التي تضطرم فيه وتتركه للإرهاب الذي بات يهدد العالم كله وتتركه للتمدد الروسي وللهيمنة الإيرانية..؟!
ربما أن أوباما الذي يريد الاكتفاء من الغنيمة بالإياب ويسعى لمغادرة البيت الأبيض من دون أي ورطه كالورطة التي أدخل جورج بوش «الابن» الولايات المتحدة فيها عندما غزا العراق من دون حسابات دقيقة، لكن هذا في حقيقة الأمر لن يجنب أمريكا استحقاقات ستترتب على حالة الانكفاء التي يفكر فيها هذا الرئيس الأمريكي، فالشرق الأوسط تعيش دوله ظروفا غير عادية والشرق الأوسط لايزال وسيبقى منطقة مصالح حيوية للدول الكبرى كلها والشرق الأوسط إن ترك فيه الحبل على الغارب سيصدر حتما المزيد من العنف والإرهاب إلى الغرب وإلى العالم كله.
هناك الآن المشكلة الأوكرانية التي أصبحت مشكلة أوروبية، وحيث أصبحت تلك المنطقة منطقة تصادم ونزاع بين روسيا والولايات المتحدة، ثم وهناك الآن عدم الاستقرار المخيم على أفغانستان وعلى باكستان وعلى إيران، وهناك كل هذه الزلازل المدمرة التي تضرب الكثير من الدول العربية، وأيضاً هناك الآن القضية الفلسطينية العالقة في عنق الزجاجة، وهناك الآن كل هذه الأوضاع المتقلبة في معظم الدول الأفريقية.. فهل تستطيع الولايات المتحدة إدارة ظهرها لكل هذا وتكتفي بـ «إنجازات» أوباما التي سيكتشف الأمريكيون وقريباً وقبل أن يصيح الديك، أنها كلها إنجازات وهمية حتى بما في ذلك ما يعتبره جون كيري معجزة استدراج إيران إلى الاتفاقية النووية.
لقد أشار السفير الأمريكي «السابق» في دمشق روبرت فورد إلى احتمال انقسام سوريا إلى ست مناطق «دول» تسيطر عليها الفصائل المختلفة والمؤتلفة التي غدت تتحكم بأكثر من 75% من هذا البلد، وكذلك وإلى جانب هذا كله فإن هناك مشكلة أن تركيا العضو الفاعل في حلف شمال الأطلسي لا يمكن أن تسكت عن النزعة الكردية الاستقلالية المتعاظمة، والتي إن هي تحققت في أي من الدولتين المجاورتين، سوريا والعراق، فإن هذه العدوى ستنتقل إليها بكل تأكيد، ولذلك فإنه يمكن الجزم بأن أمريكا لا تستطيع إدارة ظهرها لهذا كله، وذلك حتى وإن بقي باراك أوباما متمسكاً بوجهة نظره الآنفة الذكر.
- عن جريدة «الشرق الاوسط»