وأخيراً تمكن الشيطان الأكبر من إغواء إحدى دول محور الشر وساقها إلى قدرها المحتوم، فتوهمت أنها قد قطفت تفاحة الخلد وملكاً لا يبلى.
فبعد أن أدت تلك الدولة المطلوب منها في بث الرعب والفوضى وأتقنته، ولم تكن لتنجزه لولا الدعم اللوجستي الدولي اللامحدود؛ فانقضت مرحلة في غاية الأهمية في منطقة الشرق الأوسط، وسيسدل الستار عن كثير من الملفات الشائكة وفي مقدمتها الملف السوري، وسنشهد مرحلة جديدة بعد الاتفاق النووي بين مجموعة الـ5+1 وطهران.
القراءة المتأنية لما تم الاتفاق عليه وشغل الأوساط السياسية العالمية، والذي استمر لزهاء 23 شهراً، كان هدفه المعلن منع إيران من امتلاك ناصية السلاح النووي مقابل رفع العقوبات ودمجها في المجتمع الدولي، وقبل الغوص في دهاليز الاتفاق يتراءى للعامة أن إيران قد حققت تقدماً ونجاحاً منقطع النظير، وفي الحقيقة فإنها قد أقحمت نفسها في دوامة ومشبك أشبه ببيت العنكبوت الذي يستحيل بعدها أن تنفذ منه.
لقد تم نشر ذلك الاتفاق في وثيقة أممية تم صياغته بدقة وحبكة لغوية وفنية متناهية وبأسلوب مراوغ ومطاط بين طرفين يتقنان فن التقية والحيلة والمراوغة تماماً، وتجنب الاتفاق لأي إشارة صريحة برفع العقوبات، وحدد مدته بـ15 عاماً. نستشف من قراءته الدقيقة أن المجتمع الدولي تعذر عليه الحصول عن كل ما يبتغيه من طهران، كما تعذر على طهران الحصول على نص واضح بإخراجها من عنق الزجاجة الاقتصادية الخانقة والعزلة الدولية.
الشيء الجلي في الاتفاق أنه قد تم من خلاله التعاطي مع إيران بأنها متهم مدان، لكن لاعتبارات قدرها القاضي تم إطلاقها بكفالة ووضعها تحت الإقامة الجبرية، ولم تفلح طيلة مدة التفاوض الخروج من ذلك التوصيف، فتاريخ الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع بعض الدول حافل بالانتهاكات، وتم تسوية الأمور تحت الطاولة كما حدث مع البرنامج النووي الألماني وكوريا الجنوبية والكيان الصهيوني، لكن الوضع مع إيران يختلف كثيراً؛ فقد حاولت ونجحت في إحداث خروقات في برنامجها النووي، وكانت تلك الدول تراقبها عن كثب دون اعتراض إلى أن حلت ساعة الحساب فكان التفاوض هو أشبه بالتحقيق.
في الحقيقة هناك سر غامض دفع طهران بقبول أن تضع نفسها تحت الوصاية الدولية ورهنت اقتصادها وتجارتها الخارجية وتحكمها بوارداتها النفطية، بل حتى تحديد المبالغ التي تنوي مستقبلاً إنفاقها، كذلك رضوخها بالقبول بوضع ما يزيد عن 32 نشاطاً تحت المراقبة الشديدة أبرزها النفط والصناعات البتروكيمائية والصناعات الثقيلة والملاحة مروراً بالقطاع البحثي والتعليمي والصحي، كذلك المصرفي والتحويلات الخارجية تحت ذريعة المراقبة الذكية لقطع الطريق عليها بالحصول على المواد المحظورة، كذلك سلمت رقبة علمائها وباحثيها ورهن تحركهم بموافقة مسبقة، مما يعني تسليم سيرهم الذاتية وملفاتهم وعناوين إقامتهم.
هذه التنازلات قدمت مقابل وعود مموهة تقبل المراوغة والتنصل منها برفع جزئي للعقوبات الاقتصادية، وإطلاق مبلغ مجمد لا يعني شيئاً في ميزانية الدول الكبرى، والسماح بتخصيب اليورانيوم بمعدل لا يتجاوز 3.67%، مع العلم أن تلك النسبة مسموح بها لأي دولة ترغب في التخصيب.
وتحصيل حاصل يؤشر أن من بيده القول الفصل ويحمل كل بطاقات الإنذار والطرد هي مجموعة الدول الكبرى وليس مرشد الجمهورية الإسلامية، كما يسوق محلياً، وما تبرير ضحكة وزير الخارجية الإيراني وقائد طقم التفاوض؛ إلا حالة من الهيستيريا إن كان مخلصاً لجمهوريته! أو أنه مخترق، وهو من سيدق المسمار الأخير في نعش الجمهورية الإسلامية، خاصة بعد تسريب معلومة مفادها الاتفاق على منحه جائزة نوبل للسلام، ولا أظن أن يتم ذلك بدون ثمن.
أما الإشارة الأقوى التي تم برقها من مقر توقيع الاتفاقية فهو موقعها، فقد أبرمت في فندق (كوبورغ) في فيينا، والذي كان قلعة أثرية وكثيراً ما استخدم كمقر عمليات بقيادة ملك بولندا في القرن السابع عشر لوقف الزحف العثماني وتحجيمه، وتلك دلالة تاريخية كان على المفاوض الإيراني أن يعيها تماماً، أي «هنا مقتلكم كغريمكم العثمانيين».
أما ما يصطنعه ساسة الكيان الصهيوني من انفعالات وغضب واستهجان فهو مسرحية ممجوجة لإيهام وتضليل الشارع، خاصة الإيراني، لتسويق الاتفاق وإظهار المفاوض الإيراني بثوب المنتصر، فممثلو «إسرائيل» كانوا حاضرين منذ البدء في أدق التفاصيل، ولم يكن ليخرج ذلك الاتفاق إلى العلن لولا موافقتهم المسبقة.