فوضى الحواس؛ عنوان إحدى روايات الأديبة الجزائرية المبدعة أحلام مستغانمي، يقوم (منطق) الرواية على حدوث خلل في استقبال حواس بطلة الرواية؛ قادها لأن تقع في غرام الرجل (الخطأ)، حيث اكتشفت البطلة أن حواسها قد خدعتها وأن الرجل الذي انبهرت بكتاباته وبصوته وبعطره وبطيف ظله وشهرة سيرته بين أصدقائه ليس هو الرجل الذي سعت للارتباط به، وحين بحثت عن الرجل (الصح) اكتشفت أنه قد مات وتركها لخطئهـا التاريخــي ولحواسها المشوشة.
ونستطيع القول إسقاطاً على (منطق الرواية)؛ إن المواطن العربي بدأ يتخبط في شيء كثير من فوضى الحواس نتيجة الفوضى الهدامة التي تمر بها المنطقة، حيث يستقبل المواطن العربي معطيات كثيرة وتبريرات عديدة ولكنه يرى وقائع مخالفة تماماً لما يسمع، أو يسمع أحياناً تفسيرات متعددة للصورة الواحدة، والأكثر غرابة في (المنطق العربي) أن ضراوة ما يسمع وكثافة الصور التي يراها وتناقضها تجعله عاجزاً عن فك الشفرة السردية للوقائع بحيث يصدق بكل قناعة أن ما يروج له هو اللون الأخضر (مثلاً)، في حين تفقع الألوان (الحمراء) بصيرته ولا يعترف باللون الأحمر لأن ثمة من يصرح بكل إلحاح وإصرار أن اللون الأخضر يملأ المكان!!
تاريخياً استخدمت القوى الاستعمارية تأثيـر السرديـات المصنوعة في تبرير جرائمها التاريخية والترويج لها، فقد عملت كتب الاستشراق وكتب الرحلات في القرنين السادس عشر والسابع عشر، التي رافقت رحلات الاستكشاف والاستعمار، على خلق سردية (تفوق الرجل الأبيض وأسطرتها)، ورسمت صورة غير واقعية عن العوالم المكتشفة. حيث صورت الشرق بأنه بلاد السحر والشعوذة والأساطير والحكايات والجواري والجنس المباح والسلاطين المختلين والشعوب السعيدة في استعبادها، ورسمت أيضاً عن الشعوب الأفريقية السوداء، ومن بعدهم الهنود الحمر، بأنها شعوب بدائية تأكل لحوم البشر وتعبد الشياطين وتقدس الحيوانات وتغرق في الخرافات والأوبئة، وأطرت كتب الحكايات كل سردياتها المصطنعة بأن تلك الشعوب تقبع فوق ثروات كبيرة وأنها عاجزة عن إدارتها وأنها شعوب بعيدة عن (الرب) ولا تعرف لعبادته سبيلاً، وهي، بحكم الضرورة والتكوين والتنشئة، شعوب غير قابلة للتحضر أو التمدن.
وعليه فإن وظيفة الرجل الأبيض أن (يفتح) تلك العوالم وأن ينتشل شعوبها من بدائيتها بأن يدير بنفسه حكمها وأن ينفع العالم بمواردها وثرواتها. وقد فرض، استناداً إلى تلك السرديات، الفارق الحضاري بين (الرجل الأبيض) وباقي الشعوب (المفتوحة) أن يتخذ الرجل الأبيض من تلك الشعوب خدماً وعمالاً لبناء المدنية في مستعمراته وفي ممالكه الأصلية، وبذلك تم تبرير استعمار الكثير من دول العالم، وتم تبرير اقتياد ملايين من الشعوب الأفريقية إلى أوروبا وأمريكا ليعملوا عبيداً في المزارع والمصانع والقصور. وفي محطات تاريخية معينة استدعى مفهوم (الفتح) مفهوماً آخر هو (التطهير)؛ فالعوالم التي كانت مجهولة مثل الأمريكتين الممتلئتين بالشعوب الهمجية العابدة للشياطين والآكلة للحوم البشر، حسب تلك السرديات، يتعذر التعايش مع بشرها الذين أخطأتهم الحضارة بل والإنسانية؛ وبذلك تم تبرير إبادة ملايين الهنود الحمر وغيرهم من شعوب الأمريكتين وتم تسهيل عملية احتلالها وتوطين شعوب الرجل الأبيض مكانها.
وعندما تم اكتشاف كذب تلك السرديات والفبركات التاريخية التي تم حياكتها، وعندما اتضح أن تلك الشعوب لديها موروث تاريخي وحضاري عظيم، وأن لدى الكثير منها مناهج روحية رفيعة جعلت منها مجتمعات إنسانية طبيعية، كان الأوان قد فات؛ فقد أبيدت شعوب بأكملها، وقد تم اقتلاع شعوب بأكملها من جذورها ومن أسرها ونقلها عبيداً إلى ضفاف أخرى لبحار بعيدة. ولم يتحرر الرجل الأبيض عبر القرون الطويلة من (عقدة تفوقه) على باقي الشعوب، فقد بقي الرجل الأبيض هو الذي يقسم العالم إلى محاور خير ومحاور شر، وهو الذي يختار الرؤساء والزعماء الذين يتعين الإطاحة بهم، وهو الأحق بالاستفادة من ثروات الشعوب غير المتحضرة والمتمدنة، وهو الأقدر على إدارة حكمها وتسيير سياساتها، وفي أحيان كثيرة هو المكلف من عند (الرب) تارة، وباسم الإنسانية والمسؤولية الحضارية تارة أخرى، بإرساء قيم الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان بين الشعوب الفاقدة لأدوات تلك المفاهيم، حتى وإن استدعى الأمر الدخول في حروب مع تلك الدول واحتلال أراضيها وتنصيب حكام تابعين للرجل الأبيض عليها، كما حدث في أفغانستان والعراق وليبيا، وقس على منوالها.
تلك لمحة تاريخية مختزلة جداً لمفهوم السرديات المصنوعة وكيف تخلق فوضى في حواس الاستقبال بين ما يروج له وبين ما يقع فعلاً...

.. وللحديث صلة