طيلة ثلاثين يوماً لا أخفي عليكم سراً عن مدى السعادة التي كانت تساورني، فأنا لهذه اللحظة كنت أشعر أنني أعيش في المدينة الفاضلة، كيف لا والناس حولي في كل مكان؛ سواء في البيت أو العمل، في الأسواق وعند تقاطع الطرقات والإشارات الحمراء، ترى الصائم مبتسماً بالرغم من ساعات الصيام الطويلة والشمس الحارقة، متحكماً بكل حواسه؛ نظره، سمعه، كلامه، يده، أعصابه، وأهم من هذا كله ظنه ونواياه.. مع هذا كله لا يمكن أيضاً أن نتغافل عن أهم عوامل خراب الشباب وهدم النفوس قبل البيوت وهو الهاتف الجوال.
فهذا الجهاز الصغير -الذي كانت مهمته نقل الأخبار المغلوطة والشائعات، الصور التافهة، والنكت المسيئة للآخرين، وأيضاً إشراك الجميع بأدق تفاصيل حياة بعض الناس، والتي لا تقتصر فقط على السفرات والرحلات وقصد المطاعم والمتنزهات والتصوير مع مسؤول أو كبار الشخصيات- أصبح يتحكم بمصير الصغير قبل الكبير. فخلال الشهر الفضيل فإنه يتحول بقدرة قادر إلى جهاز ناقل للوعظ والتحفيز للشخص، وتذكيره بأوقات الصلاة، وعدم تركه قراءة القرآن الكريم، وأهمية بر الوالدين، ومساعدة الزوجة، وتفهم الأبناء، ومد يد العون للفقراء والمحتاجين، وكلما أراد أن يقوم بأمر سيئ لنفسه والآخرين، فأول ما نسمعه هو قول العبارة التي تذكره وتذكر من حوله بأنه صائم وهي «اللهم أني صائم».
عندما تنظر إلى الشخص منا، وتدقق بكل الإيجابية التي يتكلم بها وكل الإحسان الذي يقوم به سواء المعنوي أو المادي، فأول شعور يجول بخاطرك أنك تتمنى ألا تكون بالقرب من «قنبلة موقوتة» سوف تتحرر من صمام أمانها مع انتهاء الشهر الفضيل، ويمكن إن كان الحظ طيباً أن تتمدد لغاية آخر أيام العيد، ليعود الناس إلى ما كانوا عليه من طباع وتصرفات سابقة. وحينها نطبق المثل القائل «وعادت حليمة لعادتها القديمة».
فلنتفكر قليلاً، ما هي الموانع التي تحول بيننا وبين ما كنا عليه من طيب عمل وحسن تفكير خلال الشهر الفضيل؟ هل الجواب لأننا بشر من هذا الزمان وقد ولى زمن الأولياء والصالحين؟! إننا في زمن الانفلات ورحل زمن الانضباط.. إننا في زمن نصبح في الطاعات فقط لزيادة الصور في الإنستغرام! رحل زمن «اليد اليسرى لا تعلم ما تقوم به يد اليمنى» وأصبح كل ما نقوم به على ألسنة الجميع لكي نتمكن من تحصيل اللايكات على اليوتيوب والفيسبوك.. وتحول الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة من طاعة لكسب الحسنات إلى فرصة لإنقاص بعض من الكيلوغرامات.. وغيرها من الأمور التي بحاجة إلى صفحات وكتب ودواوين... للأسف فإن نوايانا تبدلت وأهدافنا تغيرت ودوافعنا تمحورت.
فأكثر الرسائل التي أعجبتني وأحببتها كثيراً؛ «الصوم لن ينتهي والقرآن لن يرحل، والمساجد لن تغلق والاستجابة لن تتوقف والأجر لن ينقطع. اعبد ربك حتى يأتيك اليقين، كن ربانياً ولا تكن رمضانياً».
أعود وأذكر نفسي وأذكركم، أتمنى ألا يكون جمال شخصيتنا ووسامة تصرفاتنا وأناقة أخلاقنا كـ«القنبلة الموقوتة».