منذ انتهاء الحرب الباردة في بداية التسعينات من القرن الماضي اختطفت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين المشهد العالمي، وسيطروا على معظم المنظمات والمؤسسات العالمية (مثل الأمم المتحدة، مجلس الأمن، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي)، بالإضافة إلى التحكم في الاقتصاد العالمي من خلال ما يسمى «مجموعة الدول السبع العظمى» (G7). واستطاعت أمريكا وحلفاؤها استغلال هذه المنظومة العالمية بكل براعة لتشكيل عالم مختلف لخدمة مصالحهم وتحقيق أهدافهم التوسعية، من خلال لي أذرع دول العالم، خصوصاً الدول العربية، عن طريق منظمات حقوق الإنسان ومزاعم الديموقراطية والحرية.
وفي خضم هذه التحولات نحو عالم أحادي القطبية بقيادة أمريكا، بدأ تنفيذ المشروع الجديد تحت ما يسمى «الحرب على الإرهاب»، لتغيير خارطة العالم، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط. فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والولايات المتحدة الأمريكية تدير أكبر مشـروع استيطاني في العصر الحديث، ساعدها في ذلك تفكك عدوها اللدود الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، فضلاً عن انشغال معظم حلفائها من الدول الأوروبية بالأزمة الاقتصادية العالمية، وبالتالي قامت بتسليم ملف إدارة العالم لأمريكا.
وبسبب عدم وجود أي منافس لها على الساحة العالمية، كررت الولايات المتحدة الأمريكية جميع الأخطاء التاريخية التي مارستها الأمم والامبراطوريات القديمة، فتمكن الغرور منها، كما تمكن من الذي سبقوها، اعتقاداً من ساستها بأن «الحلم الأمريكي» في طور التحقق وليس له في المستقبل أفول. ولكن للتاريخ دروس وعبر، وقد لخصها المؤرخ العالمي أرنولد توينبي (Arnold Toynbee) في موسوعته التاريخية «دراسة للتاريخ» حينما تحدث عن صعود وسقوط الأمم والحضارات من خلال نظرية «التحدي والاستجابة»، كردود أفعال تجاه الأحداث التي تواجه الشعوب والدول. وهذا بالضبط الذي حدث منذ بداية «الحرب على الإرهاب»، فلم تكن هناك أية ردود أفعال عالمية تتناسب مع حجم الكوارث والمصائب التي ترتبت على الشعوب والدول التي دمرتها أمريكا تحت مسوغات هلامية مثل «دعم الإرهاب» أو القضاء على «الجماعات الإرهابية». وهو ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تتمادى، وتتوسع، وتضطهد، دون رقيب أو حسيب. والآن جاء التاريخ ليقول كلمته، وتبدأ الأيام في الدوران ببوصلة السنن والحكم التي خلقها الله في كونه الفسيح.
التكتلات الاقتصادية.. أسواق جديدة وبائعون جدد
إن حقيقة استحواذ الاقتصاد الأمريكي على الاقتصاد العالمي، أو كما يحلو للأمريكان تسميته بالاقتصاد «الأوحد» (The Only)، منذ نهاية الحرب الباردة وحتى وقت قريب، قد بدأت تتغير، وبزغت اقتصاديات عالمية جديدة، بدأت في التفوق والتأثير على الاقتصاد العالمي، تماماً مثل ما فعلت أمريكا حينما كانت تمتلك معظم المؤسسات والمنظمات المالية العالمية، وتتحكم في مصائر الدول الأخرى وشعوبها بما يتناسب مع مصالحها الضيقة. وما صرح به رئيس رابطة دول جنوب شرق آسيا «الآسيان» في المنتدى «الاقتصادي العالمي حول شرق آسيا» والذي عقد في إندونيسيا خلال شهر أبريل 2015، من أنه سوف يتم مع نهاية العام الجاري الإعلان رسمياً عن تشكيل «لجنة آسيان الاقتصادية» من خلال تعاون 10 دول آسيوية لتدشين سوق مشتركة للمنتجات والخدمات والعمال، فإنها ستكون أكبر سوق مشتركة في العالم. والمهم في هذا الشأن بأن الاقتصاد الذي سيمتلكه هذا التكتل سوف يتفوق على السوق الأوروبية المشتركة، فضلاً عن سوق الولايات المتحدة الأمريكية التي لاتزال حتى الآن تعتبر أكبر سوق عالمية.
والمهم في هذا الموضوع، والذي له دلالة على اضمحلال النفوذ الأمريكي العالمي، هو أنه قبل عقد من الزمان لم تستطع دول «الآسيان» تأسيس هذا المشروع بسبب وقوف أمريكا كدولة عظمى ضد التصويت داخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإنشاء مثل هذه المشاريع الإقليمية، بسبب إمكانية منافستها في السوق العالمية. وهذا النجاح لدول «الآسيان» هو بالتأكيد إحدى الخسائر المتتالية التي تجنيها السياسة الخارجية الأمريكية غير المنطقية تجاه حلفائها وأصدقائها.
العودة إلى المستقبل
في فيلم الخيال العلمي الشهير «العودة إلى المستقبل» (Back to the Future)، والذي أنتجته هوليوود عام 1985 ضمن سلسلة تتكون من ثلاثة أجزاء (تم إنتاج الجزأين الثاني والثالث عامي 1989 و1990، على التوالي)، يتم من خلال الفيلم تشكيل المستقبل كما يحلو لبطل الفيلم، بالتخلص من الأحداث غير المرغوب فيها عن طريق التنقل بسيارة عابرة للزمن.
ليس لدي أدنى شك بأنه لو أتيح للإدارة الأمريكية الحالية الحصول على هذه الآلة العابرة للزمن لأعادت نفس الأخطاء التي ارتكبتها الإدارات الأخرى المتعاقبة منذ نهاية الحرب الباردة، فالخيال الذي عاشت فيه أمريكا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر لا يمكن لأحد أن يقنعها بأن هذه الأحداث لم تكن هي السبب في زعزعة أمن واستقرار العالم بأجمعه، وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط. ولكن ما تسبب في هذه الفوضى المشاهدة حالياً هي ردود الأفعال الخاطئة التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية، الواحدة تلو الأخرى، لإقناع الشعب الأمريكي بأن المشكلة في «الآخر» وليس «فينا».
نحو عالم متعدد القطبية
لا يختلف اثنان على أن العالم حينما كان ثنائي القطبية كان أفضل من عدة نواح، من العالم وهو تحت القطبية الواحدة التي تحدد مصير الدول والأمم والشعوب. فطغيان الرأسمالية بهذا الشكل البغيض قد أفرز عالماً غير مستقر، ولا أمن فيه ولا أمان، يتم التخلص فيه من الحلفاء بسرعة البرق؛ بسبب اختلاف المصالح وتغير الأحوال. وبالتالي فإن الحل المنطقي يكمن في رجوع العالم نحو الأقطاب المتعددة، حتى تتمكن الدول من العيش في منظومة متوازنة؛ بسبب اختلاف الأهداف والمصالح، تماماً كما كان يحدث إبان الحرب الباردة.
والواقع المعاش يبين أن العالم الجديد بأقطابه المتعددة هو فضاء في طور الإنشاء والتشكل. وما استمرار الحرب في سوريا، رغم الإرهاب اللامحدود الذي يمارسه الطاغية بشار الأسد ضد الشعب السوري، إلا أحد أشكال التحول نحو العالم الجديد. كذلك فإن الاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة الدول (5+1) هو شكل آخر للتغير المرتقب في الفضاء العالمي الجديد.
قبل عدة سنين، كانت المنتديات والمؤتمرات العالمية تتحدث عن القوى العظمى ممثلة في جهتين لا غير؛ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. واليوم تغيرت تماماً هذه التحليلات والتوقعات الخاطئة، وظهرت دول وتكتلات أخرى لا يمكن إغفالها أو إهمال دورها العالمي المرتقب وتأثيرها على مجريات الأحداث في المستقبل. ولاشك بأن دور الصين والهند في المستقبل المنظور سوف يكون دوراً محورياً في التأثير على الأحداث الإقليمية، خصوصاً في الشرق الأوسط.
كذلك فإن تكتل «آسيان» الاقتصادي سوف يكون عنصراً مهماً في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي. ويجب على دول مجلس التعاون الخليجي أن تستفيد من هذا التكتل؛ بسبب العلاقات التجارية التاريخية مع معظم الدول في شرق آسيا.
ولكن السؤال المهم الذي لابد لحكوماتنا التفكير فيه هو؛ أين ستكون تكتلاتنا المستقبلية؟ وفي أي اتجاه سوف تبدأ دفة التوجيه بالتحرك في ظل هذه التحولات الجيوسياسية المتسارعة إقليمياً وعالمياً؟
?
المدير التنفيذي لمركز (دراسات)