بعد ثورة العولمة والحداثة وما بعدهما، وبعد أن بدأ العالم يناقش كل اليقينيات التي كانت عبارة عن مسلمات دينية أو فلسفية في الدول المتقدمة، ليطرح مجموعة من التساؤلات والتشكيكات حول الكثير من النظريات العلمية بشتى صورها، وبعد أن وصل فكر الآخر الطامح لغزو الفضاء وطرح فرضيات العيش في كواكب أخرى غير الأرض، وبعد كل هذه الفتوحات العلمية التي كانت بداياتها قبل نصف قرن، مازال الكثير ممن يعيشون بيننا في الشرق الأوسط يتحدثون حول أهمية استحضار الطوائف الضيقة في سباق الحضارة والتقدم!
لا يمكن أن تنهض أمة من الأمم في عصرنا الراهن وهي تراهن على شارعها الطائفي، كما لا يمكننا أن نتصور بأن شعوباً بأكملها تستحضر كل مفاصل الصراعات التاريخية بكل تفاصيلها في وقتنا الحالي من أجل الفوز بمقدمات منطقية للحصول على مراتب مفصلية في الصراع الدائر اليوم حول الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من التقدم والتحضر.
من يستدعي أو يستعدي الطوائف الإسلامية في قضايا الفوز بمقعد من مقاعد الحضارة الحديثة، فهو واهم ومشحون بخرافات الماضي، ولهذا يجب عليه أن يتخلص من عقدة التاريخ الذي لا يمكن استحضاره حرفياً للوقوع في غرام الحاضر، فلكل زمان دولة ورجال.
إن العبثية التي يحاول البعض من عشاق الطائفية ممارستها في هذا الزمن المشحون بالتقدم والازدهار بفضل العلم والمعرفة، لهو أمر خطير للغاية، وربما لها من التبعيات المميتة على أصحابها وروادها وحتى مريديها، أولئك الذين فشلوا في امتلاك الحاضر، فكانت ورقتهم الأخيرة تتمثل في استدعاء الماضي بكل شروره قبل حسناته، ولهذا نجدهم ما أن يخرجوا من هزيمة حضارية، إلا ودخلوا في مستنقعات طائفية آسنة أخرى.
لا نعلم حتى متى سيستمر المسلمون اليوم في تفصيل الواقع وفق التصاميم الطائفية الرخيصة والمبتذلة؟ ومتى سيعون أو يدركون حجم الأخطار التي تنتظرهم في كل مسيرة نحو الصراع الطائفي المجنون؟ وإلى متى سيتبع الأتباع قادتهم من الطائفيين الجدد، وذلك في كل منعطف من منعطفات عصرنا الراهن؟ أم أنهم سوف يفيقون من الحلم الطائفي بعد أن ينسكب بقية اللبن من الكأس المكسورة أصلاً؟
واهم ذلك الشيعي الذي يعتقد بأن الشيعة هم محور الوجود، وواهم ذلك السني الذي يعتقد بأن السنة هم محور الكون، فهذه المعادلات العتيقة والمضحكة لا يمكن لها أن تنسجم مع طبيعة العلم والحضارة المعاصرة، فضلاً عن إلغائها لثلاثة أرباع سكان هذا الكوكب، من عظمائهم ومكتشفيهم وروادهم ومخترعيهم.
يا أيها المسلمون الغافلون النائمون التائهون، القليل من الحياء والكثير من العلم، فعليكم اليوم أن تخرجوا من حواضنكم الطائفية إلى حيث سعة هذا الفضاء الرحب، واحترام الوجود بمن فيه، هذا هو الأمر الإلهي الذي أمركم به الله تعالى في كتابه الكريم (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباَ وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).