ليست الصحيفة التي عوقبت وحدها من عاث في القانون فساداً وقلب مفاهيم الديمقراطية، بل حزبها السياسي عاث أكثر منها فساداً في الدستور والقانون، ولا يتحملان وحدهما مسؤولية هذه «الفوضى قراطية»، إنما تتحمل سلطات الدولة المسؤولية الأكبر مع حزب الدعوة ومعها كذلك بقية الأحزاب الأخرى التي تأسست بمخالفة دستورية منذ لحظة ميلادها.
تلك تشوهات ديمقراطية أشاحت السلطات بوجهها عن مخالفاتها لخمسة عشر عاماً فساهمت بهذه الفوضى، وأحياناً قامت بخطأ أفدح حين تدخلت لتعطيل أو تجميد أو تأجيل تنفيذ القانون كلما «نخاهم» أحد، ليس بالضرورة «الانتخاء» لأمر سياسي، بل أحياناً لتعطيل قوانين مدنية نافذة أو إجراءات وتدابير قانونية! حتى تعود الناس ألا يثقوا بالقضاء لإحقاق حقوقهم إنما تعودوا أن يقفوا بالبيبان لنيلها، فكان ذلك أكبر التشوهات الديمقراطية.
عثنا في مبادئ وقيم وأسس الديمقراطية فساداً حتى جردناها من مقوماتها خلال خمسة عشر عاماً، فالاستقلالية لها تفسيرها الخاص عند الأحزاب الطائفية، والسيادة لها عدة مفاهيم، والإرهاب له عدة مفاهيم مبنية على قتلانا شهداء وقتلاكم في النار، حتى القانون انتقينا ما يعجبنا ووضعنا ما لا يعجبنا تحت أقدامنا.
مؤسساتنا المرخصة وفق القانون تعمل على ترويج جميع أشكال التشوهات الخلقية في بنية الديمقراطية تحت سمع وبصر السلطات، بل وتجرؤ أن تدافع عن تشوهاتها حتى خلق جيل في العقدين الأخيرين يفهم كل مبدأ ديمقراطي بالمقلوب.
والأدهى أن لـ»الفوضى قراطية» محامين ومدافعين وحقوقيين وإعلاميين يتصدرون المشهد ويخطون المقالات وينافحون عن هذه التشوهات لا محلياً فحسب بل دولياً أيضاً، أصبح لـ»الفوضى قراطية» مؤسسات وتمويل وكتيبة مدافعين، والدولة تتفرج، مثال بسيط لأن الأمثلة أكثر من أن تحصى على جرأة الدفاع عن «الفوضى قراطية»، كتب أحد الإعلاميين المخضرمين أمس مدافعاً عن جريدة الوسط بأنها لا يجب أن يطبق عليها القانون لأنها «جريدة الشيعة»!! نعم أصبح للطائفية عنوان ومدافعون ومنافحون بالصوت العالي وبكل أريحية.
نعم في واقعنا الاجتماعي نحن سنة وشيعة وهذا أمر لا بأس فيه فاختلاف أمتي رحمة، ولا يخيفنا التعدد، إنما حدود التعدد تحصر في ممارسة طقوسنا العبادية في دورها العبادية، إنما في المؤسسات المدنية تنزع تلك الهوية، فإن كانت الدولة متهمة بتمييزها الطائفي، فكيف نصر على أن تكون لمؤسساتنا المدنية هوية طائفية؟ إن كنا نسعى لما ندعيه أي للديمقراطية فالعمل المؤسسي هو طريقنا للمدنية ومنها الصحافة التي نتكل ونعول ونعتمد عليها أن تكون ممثلاً للمواطنين، فإن كنا أسسنا هذه المؤسسات على أسس طائفية أيضاً «فبلاها»، إن كان الإعلاميون المخضرمون بل المحسوبون على التيار الليبرالي يقولون «إن الوسط صحيفة الشيعة الذين من حقهم أن يكون لهم صوت» بل ويزيد مهدداً «إن جردت الوسط من صبغتها الشيعية فماذا سيبقى لها؟ الكتابة عن التحاريم ووفيات أهل البيت؟» إذا كان هذا كلام مراسل الـ»سي إن إن»، فدربك طويل يا وطن نحو الديمقراطية، عن أي ليبرالية وعن أي مدنية وعن أي ديمقراطية نتحدث؟ لقد عثت أخي الكريم في الديمقراطية فساداً وما عدنا نتحدث عن مقوماتها، بل عن مسخ يمثلها وأنت تروج بل وتدافع عن المسخ.
المجتمعات في الدول الديمقراطية لجأت للمؤسسات لتكون بديلاً عن التقسيمات الاجتماعية «إقطاع أو قبلية أو طائفية أو... أو...» لجأت لها لتذوب الفروقات وتزيل الحواجز وتنشئ كيانات مدنية تنقلها للمدنية ويبقى المسيحي مسيحياً والبوذي بوذياً والمسلم في دار عبادته لا يضر تعدد الديانات ولا يخيف، لهذا وجد النظام الديمقراطي كي ينتقل الحراك المدني للمجتمع عبر مؤسساته لا عبر طوائفه وقبائله، فإن كان قادة التنوير يجيرون المؤسسة لخدمة الطائفة فنحن أمام كوميديا سوداء، إذا كان أرباب البيت الديمقراطي بالطائفة ضاربين فشيمة أهل البيت الفتنة الطائفية.
هذه ملامح «الفوضى قراطية» التي نعيشها منذ خمسة عشر عاماً، مؤسسات «يا زعم» داعمة للديمقراطية وهي «أحزاب سياسية وصحف ومنظمات حقوقية» قائمة على أسس مذهبية، مؤسسات أسست في دولة ومرجعياتها ثيوقراطية من دولة أخرى، والمضحك أنها تدعي الاستقلالية وتطالب السلطات والمجتمع بأن يلتزموا بمبادئ الديمقراطية وتستعين بالمجتمع الدولي لتحمي ثيوقراطيتها، يقابلها دولة تختط الديمقراطية نهجاً وتعطل القانون ولا تنفذه وتتقاطع مع القضاء سياسياً من أجل إرضاء من ينتخبها.
نحتاج لإرادة سياسية وعزم قوي لا يلين ونية صادقة لإعطاء الدستور والقانون والقضاء فرصة للتفعيل دون تدخل من أجل معالجة هذه «الفوضى قراطية» ولتصحيح المسار، نحتاج لجرأة في مواجهة مسخ «الفوضى قراطية» الذي ينافح عن تشوهاته، ونقول له في عينه نعم تلك ليست ديمقراطية حتى لو أتيت لنا بشهادة الآيزو الأوروبية واستعنت بمليون صحافي أجنبي أو منظمات أو برلمانات أو حتى حكومات دول، فإنها شهادات مزورة، نحتاج أن نفرض القانون البحريني الوطني بلا تردد وتلعثم وعلى المتضرر اللجوء للقضاء ولا نتدخل فيه.
نحتاج خمس عشرة سنة أخرى نكرسها فقط لتصحيح المسار وتقويم الاعوجاج ومعالجة التشوهات بالقانون، حتى لو أدى الأمر لإغلاق هذه المؤسسات المبنية على أسس مذهبية ضيقة وتتجرأ على المطالبة بالديمقراطية، إذ سيصعب عليها الالتزام بالدستور وأساسها خراب.