نشرت أمس تغطية لحديث للسيد عبدالله الغريفي في جامع الإمام الصادق مساء الخميس الماضي، وهو حديث نتطرق له هنا من نفس المنطلق الذي وصفه الخبر بأنه حديث ضمن «نهج متطور وغير مألوف».
لنتحدث بعقلانية هنا، وبتجرد عن سبر النوايا وبناء المواقف والأقوال وفق تتابع تاريخي وأحداث مترابطة، سنترك كل هذا جانباً، إذ ما قيل أمر نتفق مع كثيره، ونناقش قليله، رغم أن قليله قد يكون مربط الفرس نظراً لارتباطه بعملية تطبيق ما يقال.
الغريفي قال نصاً: «التحريض هو إنتاج الكراهية ضد الآخر، سواء كان الآخر نظاماً حاكماً، أو مكوناً سياسياً أو دينياً». وهذه نقطة نتفق معه فيها تماماً، إذ التحريض أياً كان اتجاهه لا ينتج إلا عنفاً، خاصة إن كان المتأثر تعرض لعمليات «شحن» أو «جند» بشكل آلي باستخدام سطوة «التبعية» أياً كانت منابعها، سواء لمنبر ديني، أو منصب سيادي. الفكرة بأن التحريض «مرفوض» لأنه أداة تسلب إرادة البشر، وفي النهاية الشعوب هي دافعة للثمن.
تشخيص السيد الغريفي سليم تماماً حين يقول بأن «التحريض يعتمد كل الوسائل غير المشروعة، مادام الهدف إلغاء الآخر، وإسقاطه ومواجهته، فلا مانع من اعتماد العنف والتطرف». إذ رأيناه واقعاً في البحرين خلال السنوات الماضية، عبر إرهاب صريح، واستهدافات لرجال الأمن، وعنف يتم تبريره للأسف من جمعيات سياسية. لكن إيجابي هنا «الاعتراف» بأن هناك «إدراك» بأن هذا التحريض لن يقود إلى شيء، وأن العنف ضد الدولة والمجتمع لن يقود إلا لتشديد أساليب المعالجة الأمنية لضمان عدم انفلات زمام الأمر، وهو ما رآه الغريفي بالدافع لاتخاذ «خيارات قاسية متشددة».
ورغم اختلافنا في وصفها بـ»الخيارات القاسية والمتشددة» كونها بالأصح إجراءات أمنية أغلبها قائم على رد الفعل الإجرائي أو التعامل الوقائي مع الإرهاب وخطره على المجتمع، إلا أننا نتفق معه بأن التحريض واللجوء لإسقاط الآخر ومواجهته هو أساس التشنج.
كما نتفق مع تشخيصه للنتائج في حال انتهجت المعارضة نهج التحريض، بوصفه الأمر إن «صدر من قبل قوى المعارضة أو قوى الشارع فإنه يقود إلى مواقف فاقدة الرشد، وإلى منزلقات مضرة بأوضاع الأوطان، وربما دفع هذا الخلط إلى مسارات العنف والتطرف».
وهذه النقطة بحد ذاتها محورية، إذ المرصود على الأرض منذ 4 سنوات وحتى قبلها، يوثق خطابات لجمعيات سياسية صريحة في تبريرها للعنف، وبعضها واضح في الدعوة له إثر التحريض على كراهية النظام. هذه مسألة لابد من الاعتراف بحدوثها أولاً، في حال كانت هناك رغبة حقيقية وصادقة في إنهاء الحال التي لا تسر أحداً في البلد، بل تضره وأهله واقتصاده.
يقر الغريفي بوجود خطابات تحريضية، لكنه يفصل بين خطابات المناصحة والنقد الهادف وبين الخطاب التحريضي، وأنه غير منصف وسم الخطابات التي فيها نقد ودعوة للمحاسبة بأنها تحريض على الدولة، وأنه نوع من الخلط. وهنا نتفق أيضاً، لكن مع ضرورة بيان نقطة مهمة جداً، تتمثل بمحددات الخطب والكلمات التحريضية والفارق بينها وبين نظيرتها التحريضية. إذ مثلاً، الدعوة ضمن أي سياق كان للقفز على القوانين وانتهاج أساليب عنيفة بحق رجال الأمن، مثل تلك الدعوة الشهيرة بـ»سحق» رجال الأمن من على منبر ديني، أهي تحريضية أم دعوة ناقدة تهدف الإصلاح؟! هنا التصنيف واضح وبين، وإن كانت حينها خرجت بزلة لسان وسوء تقدير، فكان حرياً بأن تكون المعالجة سريعة وفورية، لا بدل تكرارها ودفع الشباب الذي «غذي» غضبه وحماسه للهتاف والصراخ وتكرار الشعار، وبعدها نصل لنتيجة تفيد بأن لدينا أكثر من 14 شهيداً من رجال الواجب وعشرات المصابين!
نعرف من يكون السيد الغريفي، ونعرف ثقله على مستوى الجماعة المعارضة، وفي جانب آخر على المستوى الديني، لكن اختلاف الفكر السياسي لا يمنع من منح الرجل كلمة منصفة هنا «بغض النظر عن مواقف سابقة في ما مضى»، كلمة سواء نتفق عليها اليوم في المضمون والهدف، إذ نحن قلنا مراراً، بأن المعادلة فيها خلل صريح، حينما تصل الدولة إلى مستوى الاعتراف بارتكاب أخطاء وتوثقها وتعلنها وتكشف للناس مساعيها وخططها لحلها وإنهائها، في مقابل أن المعارضة لم تعترف أبداً بأنها ارتكبت أخطاء جسيمة، وأنها وفرت غطاء حامياً لممارسة التحريض ولمنفذي مخرجاته من عمليات إرهابية وعنف.
الغريفي بكلامه وكأنما يوجه خطاباً للمعارضة قبل الدولة بشأن ضرورة تغيير الأسلوب ونوع الخطاب ووقف التحريض ورفض العنف، وكأنه يقول لهم بأن هذه ممارسات لا تجدي مع أي نظام ودولة ذات تعددية، لأنها تستهدف إسقاطه وإلغاء الآخرين، بالتالي رد الفعل القوي متوقع.
بيد أنني أقرأ الموضوع قراءة أخرى، ولعلني مصيب أو مخطئ، لكن أتمنى أن يكون جانب الصواب هو الغالب هنا، إذ أرى بأن هناك مراجعة واضحة للخطاب المعارض، وتحديداً من قياداته الدينية، كان مؤشره الأول ذلك البيان الذي فيه أيضاً توقيع الغريفي يدين تفجير سترة الإرهابي، يسعى لتصحيح المسار نوعاً ما، وكأنما هناك عناصر بدأت تستوعب بأن ما يحصل على الأرض اليوم ما هو إلا مناهضة وحرب مع الدولة ومكونات المجتمع بأسلوب «صراع البقاء» وأن طرفاً لابد وأن يلغى، وهذه المعادلة بحد ذاتها كارثة، لأن أمماً وحضارات زالت بسبب «تشرذم» فئات المجتمع.
لذا نقول بحسن نية، لعلها بداية تصحيح مسار، لعلها بداية استيعاب بأن هذه الدولة البحرينية التي تجمعنا كلنا لو ذهبت، فإن حالنا سيكون كالعراق وربما أتعس.
ختاماً نقول، بأن الخوض في مثل هذه الأمور والبحث عن نقاط بيضاء في خطاب الآخر المختلف معه سياسياً، مسألة صعبة جداً، لأن تداعياتها تقاس برد فعل الشارع، فهناك من يرفض الهدوء ويريد التصعيد وكسر العظم وحسم النتيجة بغلبة طرف على آخر، وهناك من يستوعب بعقله لا عاطفته، ويدرك بأن أصعب الحلول تلك التي تفرض مراجعة حتى للقناعات واعترافاً بالأخطاء، والأهم التراجع عنها وتصحيح مسارها.