استناداً إلى المختصين في علم السيمياء؛ فإن مفهوم اللغة قد تجاوز الأشكال التقليدية القديمة المتمثلة في الكلام أو الكتابة. وإن اللغة التقليدية ليست محيطة بكامل المعنى، ولم تعد معبرة بما يكفي في ظل تعدد وسائل التعبير الرمزية والإيحائية التي يفيض بها زماننا. بل إن الاكتفاء بالصور التقليدية للغة قد يقودنا إلى معانٍ خاطئة؛ فاللغة تكون أحياناً أداة من أدوات التضْليل.التقيتها في كثير من المناسبات... هي أقرب للصمت تجيب عن كل سؤال وترد على كل موقف بابتسامة راضية على وجهها البسيط حد الألفة. يصعب أن تجرها إلى أي حوار.. هي فقط مستمعة جيدة تشك أحياناً في عمق استيعابها لفرط استقرار انفعالها عند مستوى المشاركة في الاستماع دون التأثر. وقد عرفت شيئاً من فصول حياتها الحزينة. عرفت بزواجها من عربي كان مقيماً لفترة قصيرة في البلاد. ثم طلاقها منه وتوليها تربية ابنها الوحيد بعد رحيل طليقها. أعرف كم تعاني المرأة الوحيدة في تربية ابنها وفي مواجهة المجتمع بفشل زواجها الذي بُني على مغامرة رومانسية أو اجتماعية. لكن هدوءها الدائم وسكينتها جعلتني أشعر بأنها من النوع الذي يعيش الحياة بما تجود به ولا يهَوِل المقادير ولا يجزع مما سيأتي. هؤلاء يصنفون أحياناً (بالبليدين) ـ آسفة على هذا التعبير- الذين لا يدركون مخاطر بعض ما ينجرفون إليه، ثم يستسلمون للشعور بالرضا عن حياتهم لأنها كُتبت عليهم على صورتهم في اللوح المحفوظ.هي صديقتي على صفحتي في فيسبوك. لم يلفت انتباهي في صفحتها إلا تغييرها الدائم لصورها. وكانت دائماً تعلق صور ابنها على صفحتها. وكانت تنشر عبارات وأشعار متعددة عن الحب والأمل والحزن والسعادة... مزيج من المعاني توحي لك بأنها (تلطشها) من أي مكان وتعلقها لمجرد التواجد والفاعلية على صفحتها.. لا غير. وذات منشور كتبته عن إحدى القضايا الاجتماعية مدججاً بصورة مؤلمة. عبرت عن تأثرها بالموضوع وجزعها من الصورة، ولأول مرة أجدها تربط بين الموضوع وحال ابنها وخوفها من مستقبله في ظل انضوائه تحت مظلة القضية الاجتماعية المتأزمة نفسها. كانت المرة الأولى التي تتحدث فيها عن نفسها وتعبر عن شيء ذي صلة بالواقع. فوجئت باقتحامها لموضوع عام وإسقاطه على أرضها في وسيلة تعبيرعامة مثل فيسبوك. لقد كنت أظنها تعيش وهي تسير على ارتفاع نصف متر عن الأرض قدماها في الهواء ولكنها أقرب إلى الأرض في معادلة غير سوية. أعدت قراءة منشوراتها على صفحتها على الفايس بوك من جديد. وحاولت أن أعيد فهمها. كانت أغلب صور ابنها وهو يمارس أنشطة رياضية. لم تكن كباقي الأمهات الفيسبوكيات؛ يصورن أبناءهن في الأعياد والمناسبات وأماكن اللعب والمرح، أولئك اللائي يصورن أبناءهن وههم نائمون أو في زي جديد، أو في إيماءة طفولية شقية.  اقتصرت صوره على التفوق الرياضي؛ فهل تساورها رغبة في نشوئه قوياً أمام ظروفه القاسية؟. والمنشورات المتعددة المعاني والمشاعر يمكن نظمها في اتجاه واحد يعبر عن الحزن والخيبة والأمل والسعادة بما هو موجود. أحاسيس تتضارب في أعماقنا وقد تتجلى في شكل (فجأة) لا يستمرئها المتلقي. ويصعب عليه إدراك أنها نتاج سيرة ذاتية تكدست عبر الزمن في وجداننا وغيرت مواقعها مراراً فلم يعد المكان مرتباً في دهاليز مشاعرنا.والتقيت بها قبل مدة في مناسبة عامة شبه خاصة... كنت قد سمعت بأنها تركت محل عملها لخلافات دبت بينها وبين زملائها. فوجئت أيضاً بأنها تختلف وتشتبك وتستطيع اتخاذ قرار صعب ومكلّف مثل الاستغناء عن وظيفة في وضع لا يجد فيه كثير من الشباب وظائف جاهزة في انتظارهم. كانت مبتسمة كعادتها وهادئة كما عرفتها وكان يرافقها ابنها، وكان الطفل الوحيد في المكان لخصوصية المناسبة. إنها المرة الأولى ألتقي بها مع ابنها، هو خجول وهادئ مثلها. ربما كانت تريد له... وهو وحيدها الذي بدأ يكبر أن يندمج بصيغة أكبر مع المجتمع الذي يعيش فيه ويزدوج في الانتماء إليه. وكعادتها... كانت إجابتها عن كل سؤال وردها على كل طرح تتمثل في ابتسامتها.. وكان هدوؤها هو عنوان انفعالها. بدأت أقرأ في  صمتها الصبر. وفي هدوؤها التحدي. وفي ابتسامتها التعايش مع قدرها.فرفقاً بالصامتين.. فهم الأبلغ في التعبير عن أنفسهم وهم الأقدر على مواجهة الحياة.