تمثل الطائفية التي تفشت وتفرعت في الوطن العربي الصورة الأكثر تخلفاً في المشهد السياسي والاجتماعي. فهي الجدار العازل الأول أمام قيم المدنية المتمثلة في العدالة والمساواة. وهي العائق الحقيقي أمام بناء دولة المواطنة وحقوق الإنسان. في الأنظمة الطائفية يتصارع زعماء الطوائف على المحاصصات بينهم، زعماً منهم بأنهم يدافعون عن حقوق أبناء طائفتهم ويذودون عنها، ثم تتحول الطائفة كلها إلى شخص زعيم الطائفية ويتحول الوطن كله غنيمة لزعماء الطوائف ومشايخها وسماسرتها وتجارها.
انتفض العراقيون أولاً ثم اللبنانيون ضد النظام الطائفي الذي أرغمهم على تبني الانفصال الشعبي والقبول بفرضية أن الآخر هو الجحيم. في لبنان، وبعيدا عن التوصيف السياسي، صارت الطائفة جزءاً تعريفياً من الهوية الشخصية للإنسان اللبناني، وتبدو الطائفة كالجنسية، وزعيم الطائفة كالرئيس الأول الذي يعلوه رئيس الجمهورية دون أن يتجاوزه في الهيمنة. أما العراق، فعلى العكس، فقد استيقظ الشعب العراقي على احتلال، ليكتشف أنه مكون من عدة طوائف وأن عليه أن يعيد التعرف على طائفته أولاً، ثم على طائفة جيرانه وزملائه في العمل، بل وعلى طائفة أهله في العشيرة التي يتفقون في النسب إليها ويختلفون في النسب إلى طوائفها. ثقافة لم يكن الهدف منها غير تفتيت الشعب ورسم حدود وجدانية وأحياناً عقائدية فيما بينه لتفتيت الوطن العربي تفتيتاً يتجاوز تفتيت حدود الخريطة. وهو الحد الذي وصل إلى تفتيت الشخصية الوطنية ذاتها وتفتيت الوجدان الإنساني للمواطن.
وقد صبر العراقيون طويلاً على تدني كل الخدمات وضياع الأمن في بلد كان أمنه في قبضة يد من حديد. ولكن لهيب الصيف الذي ارتفع هذا العام لمستويات تاريخية على مستوى العالم فجر كل الصبر الذي غص به العراقيون. ضج العراقيون من بلد هو من أغنى الدول في إنتاج النفط ومع هذا تنقطع الكهرباء فيه بالأيام الطوال ليلاً ونهاراً. انفجر البلد غضباً من البطالة التي ضربت أرقاماً قياسية في بلد خرج من الحرب وهو بحاجة إلى تنمية وإعمار وأعمال لإعادة بنائه. ثار العراقيون على ساسة وعدوهم أن يحموا حقوق طوائفهم من جور الآخرين أو تهميشهم فإذا بالشعب كله مهمش والساسة تحولوا إلى متنفذين وتجار وأصحاب مليارات. أفلس النظام الطائفي حتى آخر نقطة في كأسه المسموم. فتقسيم الشعب طائفياً كان أحد أهدافه، خدمة الساسة وحمايتهم وتقاسمهم للسلطة والمال دون الاكتراث بحقوق الشعب وحق الوطن وسلامة الوطن وأمن الوطن ووحدة الوطن. فكان الخيار أن يبقى الوطن وأن يحيا الشعب، وأن يسقط الساسة بشعاراتهم ومرجعياتهم وعماماتهم وحماياتهم.
وفي لبنان صبر اللبنانيون أكثر من أي شعب آخر على تلاشي الدولة وهجرة الشعب وأفول الوطن. رأى اللبنانيون بلدهم الذي سبق كثيراً من الدول في العلم والتعمير والحضارة وقد صار أنقاضاً وشباباً يحلمون منذ ولادتهم بالحصول على فرصة للهجرة لأي دولة حتى لو كانت غابة في عمق أفريقيا مثل غينيا أو ساحل العاج. احتمل اللبنانيون كثيراً لكنهم لم يحتملوا أن يرميهم زعماء طوائفهم وسط الزبالة ويحولوا لبنان الجمال والأناقة والأضواء والأغاني إلى سلة نفايات كبيرة. فحتى صفقات الزبالة اختلف عليها زعماء الطوائف وضيعوا على لبنان صفقات من بعض الدول الغربية عرضت فيها عليهم شراء أطنان الزبالة بالملايين لتحويلها في بلدانهم المتقدمة إلى وقود!!
ومن حيث ستنتهي أغلب الدول العربية حسب المشروع التفتيتي المرسوم للوطن العربي بدأ العراقيون ثم اللبنانيون مشروع ثورتهم. والمطلوب إسقاط النظام الطائفي وإقامة النظام الوطني. وإسقاط المحاصصات الطائفية وتلبية احتياجات المواطنين الخدمية من توفير أعمال وتوفير كهرباء وخدمات تعليمية وصحية وبناء الطرق والجسور والمساكن. هي أشياء بسيطة وأقل تعقيداً من الحسابات التي غرق فيها زعماء الطوائف حتى تركوا لبنان لأكثر من عام دون رئيس وتركوا العراق للدواعش تقضم جغرافيته.
يضرب العراق ولبنان نموذجاً في الوقت الحرج للشعوب العربية في مصير الطائفية المفلسة، التي لا تعدو أن تكون قضباناً لسكة حديد تمر عليها قاطرات الطائفيين لتصل بهم إلى السلطة ثم يحولونها إلى سلم يصعدون به إلى الثروة. فالثروة والسلطة هي كل ما يشغل زعماء الطوائف وليس الطائفة أو الوطن. فهل سيعتبر العرب من مآلات النموذجين الطائفيين الأكثر فجاجة في الوطن العربي؟