كانت صدمة تربوية مُني بها كل من شاهد مقطع الفيديو للطالب الجامعي الذي يسير في موكب التخرج متأهباً لاستلام شهادته، وحين يمر بمقاعد الأساتذة الجامعيين يتقدم بضع خطوات ليبصق في وجه أحد أساتذته!!. لا المكان ولا الزمان كانا مناسبين لتصفية أية حسابات قد تكون بين أي أحد من حضور حفل تخريج جامعي مهيب. فما بالك والفعل في حد ذاته شنيع لا يبرره أي مسوغ كان.
ماذا يعني أن يبصق طالب (جامعي)، وركزوا على (الجامعي) في حفل التخرج في وجه أستاذه؟ يعني أن الأستاذ قد يكون أخطأ بحقه وأن الطالب قد احتقن منه وادخر الانتقام ليوم عظيم. طيب... ألم يكن أمام الطالب أدوات قانونية يرفع فيها شكواه أو استياءه من الأستاذ في حال إن وقع من الأستاذ خطأ ما؟ بالتأكيد نعم. فاللوائح والأنظمة في المدارس والجامعات تنظم مثل هذه القضايا. وثمة شكاوى كثيرة من أن الطلبة قد تمادوا في تنمرهم وقلة احترامهم للمعلمين والأساتذة الجامعين بسبب ما اخترق ساحتنا التربوية من ممارسات سلبية باسم (الأساليب الحديثة في التربية) وبسبب استقواء مجالس الطلبة وتعنت أولياء الأمور. ولكن أمام كل عناصر الاستقواء لدى الطلبة إلا أن بعضهم يخشون انتقاماً ما من المعلم قد يؤثر على درجاتهم أو نجاحهم فيترددون في اللجوء إلى الإجراءات القانونية أو الشكوى إلى مجلس الطلبة.
كل ما سبق صحيح ويمكن مناقشته والدخول في سجال مفرغ فيه، ولكن الواقعة حسب شرح الطالب سببها أن الأستاذ كان يسخر من تدني أدائه الدراسي في المادة ويقول له متهكماً: إذا نجحت أبصق في وجهي. ونجح الطالب وبصق في وجه أستاذه. هكذا ببساطة هي القصة سبب ونتيجة، تحدي في مقابل إقدام. فالحادثة أياً كانت أسبابها وملابساتها فهي لن تخرج عن كونها صورة من صور أزمة القيم التي تعصف بمجتمعاتنا وتخلق كل يوم لنا مشكلة أو ظاهرة، نزعم دائماً، إنها ليست من طبائع مجتمعنا المسالم المحترم.
الجرأة والإقدام التي تحلى بهما الطالب وهو يقدم على فعلته الشنيعة أمام حشد غفير من الطلبة والأكاديميين وأمام كاميرات التصوير تدل على حالة التحدي والرعونة والثقة في عدم خضوعه للمحاسبة. هذا الطالب سيخرج لميادين العمل وسيتباهى بشجاعته المزعومة وسيمارس (البلطجة) أمام أي شخص يتحداه أو يختلف معه. فقد سبق له أن قصف من فمه من هو أعلى مقاماً من أي شخص سيقابله بعد التخرج، أقدم الطالب على فعلته بمجاهرة مذهلة دون خوف أو حياء. هذه الحادثة وإن كانت فردية، إلا أنها تفسر لنا الكثير من مظاهر تدني الذوق الاجتماعي وحالات العنف التي وصلت إلى الانخراط في جماعات العنف عند حدوث أي خلل أمني أو اضطراب سياسي في بلداننا العربية.
وقوع هذه الحادثة في الحرم الجامعي وفي مناسبة أكاديمية، وتكرار غيرها من حوادث العنف وتجاوز القانون من قبل الطلبة، يسترعي من القائمين على الحقل التربوي إعادة النظر في مشكلة القيم في المجتمع عامة وفي المجتمع التعليمي خاصة. وإعادة بناء نظام تعليمي تربوي يتواءم مع احتياجات المجتمع ويسهم في حل مشكلاته ويحدث تغييراً حقيقياً في الواقع المتأزم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وفي ظل عدم إحراز الدول العربية إنجازاً تعليمياً يذكر يشكل رصيداً في جودة النظام التعليمي العربي فإن التدهور الملحوظ في نواتج التعليم على مستوى السلوك يزيد من دلالات الخلل في فلسفة التعليم في الدول العربية وفي البرامج التعليمية المقدمة للطلبة. فالوطن العربي صار بحاجة لأكثر من خطة إنقاذ في مختلف مجالات المعرفة والعمل والثقافة.