في مضمار مشكلة احترام تعدد الآراء وقبول الآخر في الوطن العربي وفي الثقافة العربية الحديثة بشكل عام، لم تعد عملية مصادرة الآراء والتضييق على الحريات وغيرها من الأساليب التقليدية الوجه الوحيد للتعبير عن أزمة الحوار العربي - العربي. خصوصاً في هذا الوقت الذي اشتدت فيه الأزمات وتضاعفت فيه الخلافات. ثمة أسلوب قديم - جديد، أصبح يأخذ طابعاً منهجياً ومتفقاً عليه لإجهاض التوصل إلى نتائج في كثير من الحوارات وهو أسلوب المزايدات.
ومفهوم المزايدات في أبسط تعريفاتها هو التشكيك في الآخر مضافاً إليه استعمال صيغة التفضيل «أفعل» في توازن يكون لصالح المتكلم في مواجهة الآخر. فحين تختلف مع أحدهم في قضية ذات صلة بمفهوم الدين وتمثلاته في الحياة، يفاجئك «الأحدهم» بأن يشكك في مدى التزامك الديني وبمدى تغلغل الدين في خلايا عقلك وتجليات سلوكك ويصير فجأة الأكثر تديناً منك والأكثر غيرة على الدين منك. وحين تناقش أحداً آخر في شأن وطني وتختلف معه يفاجئك هو الآخر في تشكيكه بوطنيتك وبتقديرك لحجم الأخطار التي يتعرض لها الوطن، ثم يصبح هو الأعلم منك بحاجة اللحظة إلى توجهات مغايرة وقرارات استثنائية.
وأحياناً، ودون مسوغات، حين تختلف مع شخص ثالث في قضية فكرية يتوجه إليك فجأة مستغرباً من نمط التفكير «الغريب» الذي نحوت نحوه ونتج عنه تلك التصورات التي يراها «غريبة»، ويحدثك بمنطق يملي عليك أن تقر على أساسه أنه هو من يمتلك النظرة المثلى للأمور والتحليل الأصوب للقضايا. ليس لأن براهينه أدق وأكثر موضوعية بل لأنه مقتنع بها وليس مقتنعاً بوجهة نظرك.
مشكلة المزايدات والمزايدين أن الحوار ينقلب فجأة وبأسلوب انفعالي من حوار على الموضوع وبراهينه واختلاف زوايا النظر إليه للوصول إلى منظور كلي يثري الحوار وتتبادل فيه المنافع الفكرية، يتحول فجأة، إلى جدل عقيم حول «الذات والآخر» يجر فيه أحدهم الآخر للدخول في قفص الاتهام وتقديم الدفوعات عن النفس والتبرير لوجهة النظر وليس تفسيرها. ويخرج الطرفان أو الأكثر من الحوار / الجدل العقيم في حالة غضب واحتقان هي بالفعل مأساة الوطن العربي في قضاياه الملتهبة الحالية.
ولم تعد مظاهر المزايدات مقتصرة على عامة الناس من غير المدركين لقواعد الحوار المنهجي. بل صارت «منهجية فتاكة» عند عدد غير قليل من الإعلاميين الذين صاروا يخرجون علينا في القنوات الفضائية أو يتحفوننا في مقالاتهم بلهجات لا تخرج عن التبجيل لوجهة نظرهم والترهيب من تبني غيره. أحدهم قالها صراحة وبكل صلافة على إحدى الفضائيات وبعد خطبة سمجة عن الحرية والوطنية، وفي معرض حديثه بعدها عن إحدى القضايا المتعلقة بمشكلة داخلية في بلده تتجاذبها الأحزاب السياسية؛ قال إن الرأي في الموضوع هو ما يراه هو وأن رأياً آخر يطرحه أي طرف آخر هو رأي غير وطني وأن على الجهات الأمنية عدم التساهل مع من يحاول الترويج للرأي المخالف؛ لأن ذلك يضر بالوطن والمصلحة العامة..
قاتل الله المزايدين كم يناقضون أنفسهم.